” الطاحونة” أحد أهم معالم الريف المصرى العتيق اتسمت بأنها دفتر أحوال اهالى الريف وشاهده على كل الأحداث الإجتماعية والإنسانية والسياسية من بدايات القرن المنصرم ، والطاحونة هى آلة كانت تدار فى حقب العشرينات بالفحم ثم تبدل الحال بعد أن أدخل الإنجليز وابورات تدار بالسولار حيث كانت مصر فى ذلك الحين تحت وطأة الإحتلال البريطانى وكانت هناك ثورة شعبية كبيرة بداية من ثورة 1919 والتى قادها الزعيم الوفدى الكبير سعد زغلول، والذى تغنى ببطولاتة المواطنين البسطاء وهم يطحنون حبوب محصول القمح والذرة لإنتاج الدقيق الأهلى وخبز الأفران البلدية ذى المزاق الخاص.
الأهالى يدور بهم الحديث عن حكايات سعد زغلول ورفقاة مع الإنجليز والمستعمر البريطانى وصولاتهم وجولاتهم ثم انتقل الحديث بهم الى مصطفى النحاس خليفته ورئيس حكومة الوفد بعد رحيل سعد زغلول وحكايته مع الولاة العثمانين وملوك مصر الأتراك فى لك الحين وعن المعاهدات مع المحتل البريطانى وحكايات الفدائين على خط القنال وكأن “الطاحونة” كانت بمثابة المقهى السياسى والنادى الإجتماعى للبسطاء فى الريف المصرى التليد،
ويمتد تاريخ طواحين الغلال عشرات السنين فى اعماق دلتا مصر الخصبة التى تروى بمياة النيل شريان الحياة المصرية القديمة والحديثة سطرها الروائى المصرى الكبير يوسف أدريس فى قصته الشهيرة” الطاحونة” والتى جسد فيها قيمة الآلة ليس لشهرتها فحسب بل لأنها شاهد عيان على حقب وعادات وتقاليد وكريات ريف دلتا مصر العامر بالخيرات، وسجل يوسف أدريس الصراعات الدائرة بين الأهالى ودوار العمدة تارة وبين الفلاحين الغلابة والإقطاعيين المنتمين للخديو الحاكم وحواديت الألم والإستعباد والسخرة ، حيث جسدت عصورا متلاحقة من الأحداث والأمكنة والأزمنة ، وكلك الرؤى والإطروحات المتلاحقة والمتزامنة، وكأنها نسيج إنسانى متكامل.
وقد فطن العرب المسلمون فى القرن الرابع الهجرى الى قيمة هذة الطواحين وصنع منها ما يدار بالماء، إذ صنعوا سفنا وركّبوا عليها طواحين تدور بفعل ضغط مياه الأنهار، ويذكر الجغرافي العربي المقدسي في كتابه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم»، أن أهل البصرة في ذلك الزمان كانوا يعانون من مشكلة المد والجزر في شط العرب كل يوم، فعمد بعض الصناعيين من أهل المدينة إلى صناعة الطواحين، وجعلوها على أفواه الأنهار ليديرها الماء أثناء حركته خارجا وداخلا، وبذلك استطاعوا حل مشكلتهم بما يعود بالفائدة عليهم ، واخذ الغرب هذة الفكرة وبدأ وفى انتاج ماكينات دفع لكنها تعمل بالفحم ثم السولار تقوم بضخ قوة هائلة الى حلزونات حديدية تسمى” تارات” تتصل بعمود قائم متحرك يحرك معه حجرين كبيرين يزن الواحد نصف طن لتسوية الغلال ثم تطورت الفكرة الى تروس حديدية بمواتير كهربائية تعمل بسرعة وطاقة هائلة فى طواحين تسمى” سلندرات”
ومع تقدم الزمن وهجرة الفلاحين لأراضيهم والتى قام البعض بتبويرها وتحويلها الى اراضى فضاء طمعا من الأرباح التى سوف يجنيها من “تسقيع” تلك الأراضى وبيعها بآلاف الجنيهات كأراضى مبانى ليحترف الفلاحين مهن غير مهنهم منها مثلا “سمسرة العقارات” ” سائقين ” للميكروباص” وهى سيارات الأجرة ليتركوا “الفأس” الذى كان يجلب الخير لهم ويحمى تراثهم وتغير المشهد الإنسانى والإجتماعى والتراثى ، واكتسب الفلاحين قيما وعادات غريبة وتحولت حياتهم الى مايشبه حياة الحضر رغم الفارق بين الريف والحضر وتبدلت الشخصية من الأصالة الى ما يشبه الإستنساخ وزادت مع تلك التغيرات التركيبية والتشريحية للمجتمع الريفى حالات التعدى على الأراضى الزراعية الخصبة ،
وكشف آخر تقرير رسمى صادر عن الإدارة المركزية لحماية الأراضى بوزارة الزراعة، ارتفاع التعديات على الأراضى الزراعية الخصبة لمليون و383 ألف حالة على مساحة بلغت 60 ألفا و789 فدان من الأراضى الخصبة سواء بالبناء أو التجريف أو التشوين، وأوضح التقرير أن ما تم أزلته 239 ألف حالة على مساحة 13 ألف و713 فدانا.
وقال رئيس الإدارة المركزية لحماية الاراضى، ” إن أكبر العوائق التى تواجه عمليات الإزالة فى حالة تشييد المبانى على الأراضى الزراعية وهى توصيل المرافق إليها من خدمات الكهرباء والمياه وصرف صحى، على الرغم من حظر القانون وقرار مجلس الوزراء الاخير بعدم توصيل المرافق لتلك المبانى المتعدية على الأرض الزراعية، مطالب بتنفيذ القانون والإزالة الفورية للمتعدين وعدم توصيل المرافق.”
” وأضاف رئيس حماية الأراضى، أنه تم توزيع منشور لمديريات الزراعة بكل محافظات مصر، يؤكد أن أراضى الوادى ودلتا النيل محمية طبيعية والتعدى عليها جريمة يعاقب عليها القانون، وعدم التصالح مع المخالفات على الأراضى التى يتم التعدى عليها إلا بإزالة نواتج التعدى وإعادة الأرض إلى طبيعتها الأصلية، مشيرا إلى استمرار الاجتماعات الدورية مع مديريات الزراعة بالمحافظات ومديرى الإدارات الزراعية ومديرى حماية الأراضى، وتم التنبيه عليهم لتطبيق ما ورد من الإدارة المركزية لحماية الأراضى بضرورة الإبلاغ الفورى عن أى تعديات جديدة تقع على الأراضى الزراعية، واتخاذ اللازم نحو إزالة التعديات، وإحالة المخالفين للجهات المعنية” .
, يرتبط بتاريخ صناعة الخبز بالطاحونة القديمة ، فالقمح والشعير والذرة وغيرها من الحبوب كان لابد من طحنها لصناعة الخبز، لذا عرف الإنسان الطحن منذ فجر التاريخ: طحن الحبوب، فبدأ في دقه بمدقات من حجر هي أشبه بالهاون «المجرس»، تضرب بقوة في تجويف كتلة حجرية (جرن)، حيث يهبط الهاون على القمح بداخلها، ويكون المدق ثقيلا مصنوعا من حجر صلد أيضا.”
الا أنه قد “تطورت آليات عملية الطحن إلى استخدام المدق الرحى: حجران مستديران، يدار أعلاهما على أسفلهما باليد، وفي أوسط الأعلى فرجة مستديرة يُصب فيها القمح، ليجري بين القرصين فيطحن مع هذه الحركة. وكبرت «الرحوات» حتى كانت تدار بالحيوانات، أو بقوة اندفاع الماء من مجاريه الطبيعية، أو بمراوح الهواء التي تطول عاليا نحو السماء، لتتشكل الطواحين، التي اتخذت أشكالا وأحجاما تختلف باختلاف المكان، ولم تخل منها مدينة أو قرية في العالم القديم والحديث، وهي تنتشر حتى الآن في صورها البدائية في القرى هنا أو هناك، في مختلف البلدان العربية والإسلامية، جنبا إلى جنب مع المطاحن الكبرى في المدن التي تصنع وتدار بأحدث التقنيات التكنولوجية الحديثة”.
وامام هذة الأحداث وتلك الآلة العجيبة التى جائت شاهده على تلك العصور، كان علينا أن نخترق أفكار أحد عمال “الطواحين” من بقايا الزمن الجميل بإحدى المحافظات المصرية ليستدعى لنا تفاصيل المهنة الأصيلة ، يقول الرجل أنه كان يعمل فى واحدة من أقدم طواحين الحجارة والتى تمتد تاريخها الى مايقرب من 100 عام وقال تربينا فى هذا المكان والى شهد كل احداث حياتنا فيه نربينا وجلسنا مع آبائنا وفيه عشنا أكثر ماعشنا فى بيوتنا كنا دائما “صحبة ولمة” وكان العمل ليل نهار.
وأضاف هنا كانت حكايات سعد باشا زغلول والنحاس وحكومة الوفد ومقاومة الإنجليز وثورتى 1919 م و1952م وذكريات عبد الناصر وانكسار الهزيمة فى 1967م وانتعاش الإنتصار فى 1973 وحكايات العدو الصهيونى وبسالة الجيش العربى والمقاومة والإستبسال ، وكانت العجلة تدور ويدور معها عجلة الزمن والأحداث دقات الديزل الإنجليزى الصنع ماركة” كورسلى” كانت تشعل الدنيا نشاطا وضجيجا ، الزبائن تأخ دورها فى تفريغ عبوات القمح والشعير والرة فى “قواديس” كبيرة تلقيها الماكينة فى فتحات ضيقة تمرر الحبوب ببطئ الى حيث قلب الحجارة الصوان وأتراسها المدببة التى نصنع خطوطها بأنفسنا من خلال الدقاق وهو شاكوش حديدى يأكل فى الحجر الصوان ليصنع منه خطوطا حامية “تفرق” الحبة لتسوى منها الدقيق البلدى العظيم ، الى افتقدناة كثيرا بعد اهمال الفلاحين للطحن والإعتماد على أرغفة العيش المدعمة التى يأتون بها من المخابز وضاعت معها نكهة صناعة الخبز المنزلى التى تتبارى السيدات فى صنعه .
وأضاف العامل كان يوم “الطحين” عيد فى كل بيت ريفى موسم جنى محصول القمح من اجمل المناسبات فى حياة اهل الريف القديم فقد كان الفلاحين يصنعون منه أشهى المخبوزات ومنها” البتاوى ، والأبورى، والمشلتت” وكان الغرباء يحضرون للريف ليأكلوا هذه الأنواع من الخبز شهية الطعم جميلة المذاق ، لكن دوران أتراس الحياة اختفى صوت ” الطاحونة” وتحولت الى تراث وضاع جمال وتراث الريف الأصيل لينقضى عهدا من أجمل عهود وذكريات الماضى الجميل وقيس على ذلك كل المعانى الجميلة والأشياء الرائعة التى اختفت ودخلت مكانها اشياء حولت الريف الأصيل الى مجرد مسخ خلف ورائة أوجاع كثيرة نعانى منها ولم تكن تلك اللآلة الا شاهد من شواهد تراثية عظيمة انزوت وانزوى معها اشياء جميلة تحولت الى مجرد حلم مازال فى مخيلة الناس على مر الزمن .