بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
إن الموضوع عن العنف أسبابه وعلاجه في الحقيقة من المواضيع المهمة التي ينبغي التحدث فيها والتنويه بها؛ لأنها كلمة مجملة يستعملها كلٌّ فيما أراد، فمن أعداء الإسلام مَن يصفون الإسلام بالعنف والقسوة إلى آخره، ويبنون على هذا تشكيك الأمة في دينها وثوابتها ومسلماتها، والذي يعالج هذه القضية يعالجها بالموقف الشرعي، فإن دين الإسلام دين حق، ودين هدى، ودين عدل في الأقوال والأعمال قال تعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا﴾ [سورة الأنعام : الآية 152] وقال جل من قائل: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا﴾ [سورة المائدة : الآية 8].
الغيرة مطلوبة في قلب المسلم، ويجب أن يكون في قلبه غيرة لله وإنكار لمحارم الله، لكن هذا الإنكار وهذه الغيرة يجب أن يكونا بضوابطهما الشرعية، لا بالأهواء والآراء، وإذا نظرنا إلى العنف وجدنا أن القرآن والسنة ضده، والذي هو في حقيقته الظلم والعدوان، فإن الله جل وعلا أمرنا بأن نقول القول الحسن: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [سورة البقرة : الآية 83] وقال: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُواًّ مُّبيِنًا﴾ [سورة الإسراء : الآية 53] فأمرنا الله بالقول الحسن، فمما أخذه على بني إسرائيل وأمرهم به ما جاء في قوله جل وعلا: ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [سورة البقرة : الآية 83] وأمر الله عباده بقوله: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [سورة الإسراء : الآية 53] وقال عن نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [سورة القلم : الآية 4] وقال: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [سورة آل عمران : الآية 159].
أيها الإخوة العنف لا يرافق الداعي إلى الله، فإن الداعي إلى الله يصاحبه الرفق واللين في دعوته، يقول صلى الله عليه وسلم: «إِنّ الرِّفْق لا يكُونُ فِى شىْءٍ إِلاّ زانهُ ولا يُنْزعُ مِنْ شىْءٍ إِلاّ شانهُ».( 42) فلا بد للداعي إلى الله أن يكون ذا حلم وأناة وخلق حسن ورحابة صدر وسعة أفق حتى يدعو إلى الله ويُقْبل الناس عليه ويفهمون كلامه ويسمعون خاطبه.
لما أمر الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن يصدع بدعوته وقال له: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ ﴾ [سورة الحجر : الآية 94] شمر عن ساق الجد، ودعا إلى الله ليلا ونهارًا وسِرًّا وجِهَارًا، يأتي قبائل العرب في موسم الحج ويعرض عليهم دعوته، ويتلو القرآن عليهم، فمِن قَابِلٍ ومن رادٍّ، ومِن مُتوَقِّف، وهو مع ذلك صابر محتسب، ويأتيه ملك الجبال يستأذنه أن يطبق عليهم الأخشبين بمكة، فيتأنى رجاء أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئًا، والله يقول له: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [سورة آل عمران : الآية 128] وهو صلى الله عليه وسلم يعامل الناس بالرفق في كل الأحوال.
لما جاء معاوية بن الحكم إلى المسجد ليصلي وشمت العاطس، فسَكَّتَه الصحابة بالإشارة إليه، فلما سلم قال: فدعاني صلى الله عليه وسلم بأبي وأمي ما رأيت معلمًا مثله، والله ما ضربني ولا كهرني ولا شتمني ولكن قال: «إِنّ هذِهِ الصّلاة لا يصْلُحُ فِيها شيْءٌ مِنْ كلامِ النّاسِ، إِنّما هُو التّسْبِيحُ والتّكْبِيرُ وقِراءةُ الْقُرْآنِ».(43 )
ولما جاءه صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الشاب يستأذنه في الزنى قال له: «أَتُحِبُّهُ لأُمِّكَ؟». قَالَ: لاَ وَاللَّهِ، جَعَلَنِى اللَّهُ فِدَاكَ . قَالَ: «وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأُمَّهَاتِهِمْ». قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لاِبْنَتِكَ؟». قَالَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَعَلَنِى اللَّهُ فِدَاكَ. قَالَ: «وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ». قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لأُخْتِكَ؟». قَالَ: لاَ وَاللَّهِ، جَعَلَنِى اللَّهُ فِدَاكَ. قَالَ: «وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأَخَوَاتِهِمْ». قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟». قَالَ: لاَ وَاللَّهِ جَعَلَنِى اللَّهُ فِدَاكَ. قَالَ: «وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ». قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟». قَالَ: لاَ وَاللَّهِ، جَعَلَنِى اللَّهُ فِدَاكَ. قَالَ: «وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالاَتِهِمْ». قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ وَحَصِّنْ فَرْجَهُ». قَالَ فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَىْءٍ.(44 )
فيجب على الداعي إلى الله أن يكون رَفِيقًا في دعوته بعيدًا عن العنف حتى يُقْبِل الناس عليه ويسمعوا منه ويُصْغوا إليه، فإن كان غليظ الطبع سَيِّئ الخلق، سريع الانفعال لم يتمكن من إيصال كلمة الحق إلى آراء الناس وعقولهم.
والرفق مطلوب للمعلم في تعليمه، فإذا كان رفيقًا استفاد الطلاب من علومه وسألوه وناقشوه، واستفادوا منه، وإن كان ذا عنف فَرُّوا منه ولم يُقْبِلوا عليه، والرفق مطلوب مع العمال ومع الخدم، يقول أنس رضي الله عنه : خَدَمْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِى: أُفٍّ. وَلاَ: لِمَ صَنَعْتَ؟ وَلاَ: أَلاَّ صَنَعْتَ.( 45)
والرفق مطلوب مع الجار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» ( 46).
والرفق مطلوب مع الأبوين والعنف حرام معهما قال جل وعلا: ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ [سورة الإسراء : الآية 23] الآية.
والرفق مطلوب مع البائع والمشتري: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى»( 47).
والرفق مطلوب مع الأولاد والعنف ينفرهم ويقسي قلوبهم على أبويهم، والرفق يُقَرِّبُهم إليهما ويجعلهم يحبونهما، كما ذُكِرَ من قصة تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين وحمله أمامة وقوله للأعرابي: «أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ»( 48).
والرفق مطلوب مع الزوجة ومع النسوة وأنهن خلقن من ضلع أعوج، وأن أعوجه أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، ولا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خُلقًا رضي منها خلقا آخر.
والرفق مطلوب مع الزملاء والأصدقاء والأصحاب حتى تعمهم المودة، والرفق مطلوب مع إمام المسجد، فعليه أن يرفق بالمصلين ولا يطيل عليهم ولا يخل بصلاتهم، لئلا يحصل نزاع بينه وبينهم، إنما يؤدي واجبه كإمام بحسن أداء ورفق بالمصلين إلى غير ذلك.
والرفق مطلوب من الشركاء، قال جل وعلا: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ﴾ [سورة ص : الآية 24] فالرفق مع الشريك تَطِيب به الشراكة، وتكون به الثقة، والعنف يشعل نار العداوة ويفرق بين الجميع.
والرفق مطلوب من القاضي في أثناء قضائه حتى لا يطمع القوي في جوره، ولا ييأس الضعيف من عدله.
والرفق مطلوب مع المحققين بحيث لا يضرون به الآخرين، وإنما تحقيقهم يكون بالرفق حتى يصلوا إلى الحقيقة دون أن يضروا بالآخرين.