خلال الأيام التي أعقبت تنصيب رجب طيب أردوغان رئيساً لتركيا لفترة ثانية بصلاحيات شبه مطلقة، هبطت الليرة التركية إلى أدنى مستوى لها منذ الأزمة الاقتصادية العالمية في العام 2008، ما دعا وكالة “فيتش” العالمية للتصنيف الائتماني إلى إصدار تقرير “بالأحمر” يصف الاقتصاد التركي بأنه يوغل سريعاً في هوامش “الخطر” الاستثماري تحت ضغط تآكل الثقة الدولية.
الأمر الذي جعل وكالة “بلومبيرغ” الاقتصادية، تُعنون بالقول إن “تركيا تسقط عميقاً في كومة الخردة وسط تفاقم مخاطر الاستقرار”.
ولم تكن “بلومبيرغ” و”فيتش” وحدهما اللتان قرأتا فيما حصل في تركيا منذ يوم الإثنين الماضي شواهد محكمة على “خلل تراكم على مدى 15 سنة من حكم أردوغان وحزب “العدالة والتنمية”، لينفجر الآن على هيئة “دكتاتور منح نفسه صلاحيات دستورية مطلقة، ويشتغل بوقود الإسلام السياسي، وبحلم استعادة الخلافة العثمانية”، حسب توصيف صحيفة “ديرشبيغل” الألمانية.2014
هذا التقييم السياسي المدفوع بتحسبات للمشاكل التي يمكن أن يفاقمها أردوغان في الشرق الأوسط ، وفي دول الجوار من أوروبا الشرقية والغربية وصولاً إلى البحر الأحمر وشمال أفريقيا، قرأته وسائل إعلام ومراكز دراسات من خلال ما فعله أردوغان خلال خمسة أيام فقط، وهو يترجم تنفيذياً التعديلات الدستورية التي جعلت حُكمه لتركيا “رئاسياً” يجمع كل الصلاحيات ويركزها في “خلية عائلية” وبطانة ذات طموحات تفوق إمكانيات الدولة.
موكب الانكشارية
أول مظاهر “تركيا الجديدة” كما يرفع أردوغان شعارها، تمثلت صباح يوم الإثنين بالموكب السلطاني ذي الخيول المهمطة والانكشارية بالخوذ الزرقاء ممن أحاطوا بسيارته وهو في طريقه لأداء القسم، ليصبح عدد الطلقات المدفعية الاحتفالية 101 طلقة، فيما جرى اعتماد “الأوركسترا العثمانية” لتكون هي الهيئة الفنية للحفل.
الحفل الاستعراضي الذي دعا له أردوغان 22 دولة وشخصية، ممن يوصفون بأنهم “أصدقاء” الإسلام السياسي والطموحات العثمانية التي تتجاوز الحدود، كان بينهم سبعة من دول البلقان والقوقاز التي كانت تحت السلطنة العثمانية، وكان بينهم من العرب أمير قطر ورئيس حزب النهضة التونسي راشد الغنوشي.
أما التشكيلة الحكومية التي أعلنت مساء اليوم نفسه برئاسة أردوغان، فبعثت برسائل سياسية واقتصادية لم تحتمل الكثير من التأويل، فالجانب الأمني فيها احتفظ به سليمان صولو الذي حمل حقيبة وزارة الداخلية منذ آب/أغسطس 2016، ولديه برنامج واضح في إدامة “التنظيف الداخلي” من المعارضة بكل أشكالها، وسط اعتراضات واسعة ظهرت عندما أقسم صولو يمين عضويته للبرلمان، حيث غادر المجلس وسط تصفير عال.
فيما تولى الجانب الاقتصادي والمالي بيرات البيرق صهر أردوغان، الذي وصف بأنه ولي عهد السلطان أردوغان، فقد حمل حقيبة مزدوجة لوزارتين موكلتين بمخاطبة الثقة الاقتصادية الخارجية والداخلية، بينما خرج من الحقيبتين وزيران طالما كان يُنظر لهما أنهما ذوي اختصاص وخبرة.
لذلك جاء رد الفعل الداخلي والدولي عصبياً بأن تراجع سعر صرف الليرة باليوم نفسه، فالبيرق الذي كان وزيراً للطاقة كان أيضاً مؤسسًا لصندوق سيادي لتركيا بمبلغ 200 بليون دولار لم يحقق شيئاً طوال الأربع سنوات الماضية.
وصفة أردوغانية للإفلاس
التشريع الآخر الذي أصاب الثقة مع الأسواق الخارجية في مقتل حسب وصف “الفايننشال تايمز”، كان صدور مرسوم يتيح للرئيس تعيين محافظ البنك المركزي.
فعندما أعلن أردوغان قبل حوالي شهرين أنه يريد السيطرة على البنك ليتحكم بسعر الفائدة ويخفضها، كان جواب الأسواق والصناديق العالمية تحذيرياً بشكل حاد، وهو ما تكرر رقمياً مساء يوم الإثنين وقد يصل ذروته الكاسرة يوم الرابع والعشرين من الشهر الحالي عندما يرأس البيرق وزير المالية الجديد اجتماعاً حاسماً للبنك المركزي.
وتتفق كل التقارير الاقتصادية ومنها التي اعتمدتها وكالة ” فيتش”، على أن نظرية أردوغان في التخفيض القسري للفوائد، وصفة مجرّبة للإفلاس التدريجي، كما حصل في عدة دول أخرى معروفة.
وكانت المفاجأة الثالثة في التشكيلة الحكومية، تعيين رئيس الأركان منذ عام 2015 خلوصي أكار وزيراً للدفاع، فهو شخصية خلافية غامضة جرى اعتقاله في المحاولة الانقلابية “المزعومة” عام 2016، ليهبط يومها بطائرة هليوكبتر في مكتب رئيس الوزراء، ولتشيع معلومات بأنه كان على علم مسبق بالمحاولة العسكرية ولم يبلغ عنها.
بعد ذلك بأيام سئل أردوغان إن كان سيزيح خلوصي من منصبه فكان جوابه “أنا لا أغير الفرس في منتصف الطريق”، ومن وقتها ظل أردوغان يربط خلوصي إلى جانبه ولم يغادر تركيا بزيارة خارجية ويترك خلوصي خلفه في البلد.
أما الملاحظة الرابعة على التشكيلة الحكومية، فهي أن أردوغان احتفظ في حكومته بوزيرة هي زهرة زومروت سلجوق، المعروف عنها أنها تدير منذ عدة سنوات الملفات الأمنية للدول العربية ابتداء من قطر إلى ليبيا، وهي إشارة فُهمت بأن النهج التركي التوسعي المتحرش بالدول العربية ما يزال مستمرًا.
الجولة الخارجية الأولى
لكن الذي لفت أنظار المحللين، في برنامج أردوغان بعد أن أصبح رئيساً مطلق الصلاحيات هو جولته الخارجية الأولى.
ففي اليوم الثاني لأدائه القسم، غادر في رحلة إلى منطقة البلقان التي تُشكل جزءاً من ذاكرة الإمبراطورية العثمانية، حيث زار أذربيجان ومنها إلى شمال قبرص أو ما يسميه قبرص التركية، وبعدها غادر إلى اجتماعات حلف الأطلسي مصطحباً زوجته التي أظهرتها شبكة “ايه بي سي” الأمريكية وهي تتغزل بفستان ميلانيا ترامب حرم الرئيس الأمريكي.
وأعلن يوم الجمعة الماضية حزب “العدالة والتنمية” الحاكم وحليفه حزب “الحركة القومية” في البرلمان التركي، عن أنهما يُعدّان قائمة جديدة من التشريعات الأمنية التي ستدخل حيز التنفيذ بعد رفع حالة الطوارئ التي ينتهي العمل بها يوم 18 الشهر الحالي.
وأثارت هذه التوجهات حفيظة المعارضة التركية ومنظمات حقوق الإنسان العالمية التي أصدرت تقارير بشواهد رقمية عن حجم التعسف الذي مارسه نظام أردوغان خلال السنوات الماضية، وأضحى فيه بين أول خمس دول في العالم في معاداة الديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي محاولات اختراق أمن الدول الأخرى، انطلاقًا من دول الجوار.
المغنية زوحل أولكاي
آخر مظاهر قمع أصوات المعارضة وأطرفها، حصل في إسطنبول يوم الأربعاء الماضي، عندما أصدرت المحكمة قرارًا ألغى حكماً سابقاً بحبس المغنية التركية زوحل أولجاي مدة عشرة شهور، بدعوى إهانتها شخص الرئيس أردوغان، ورفعت مدة الحكم إلى سنة.
فيما كانت حيثيات الدعوى على المغنية أولجاي، أنها أجرت تحويراً على أغنية قديمة لها وأبقت اسم أردوغان في الأغنية لتخاطبه بالقول، حياتنا معك يا أردوغان كلها بوش أي هباء، ستنتهي الحياة وسيأتيك يوم تقول فيه كان لدي حلم وأصبح هباء”.
ما أثار المحكمة أكثر في قضية أولجاي، ليس النصوص التي تحكي عن أردوغان، وإنما الإشارة التي صدرت من يدها وهي تنطق باسمه.
وقد نقلت صحيفة “حرييت” التركية الناطقة باللغة الإنجليزية، عن أولجاي قولها في المحكمة،”تلك الإشارة لم أكن أقصد بها أردوغان وإنما صدرت مني لإسكات جمهور الصف الأول في الحفل، حتى لا يتمادوا في الإساءة للرئيس”.