صدر قرار خادم الحرمين الشريفين بقصر الفتوى على أعضاء هيئة كبار العلماء، بعد دخول بعض الخطباء في تناول موضوعات تخالف التعليمات الشرعية، مستثنياً الفتاوى الخاصة الفردية غير المعلنة في أمور العبادات، والمعاملات، والأحوال الشخصية، بشرط أن تكون خاصة بين السائل والمسؤول، على أن يمنع منعاً باتاً التطرق لأي موضوع يدخل في مشمول شواذ الآراء، ومفردات أهل العلم المرجّحة، وأقوالهم المهجورة.
ويبذل سماحة مفتي عام المملكة ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ جهود حثيثة لتنفيذ ما جاء في القرار، إذ إنّ كل المؤشرات تكشف عن اتخاذ الإجراءات اللازمة لكيفية تطبيقه بحق كل من يخالفه.
ولا شك أنّ لـ “الفتوى” أهمية كبيرة، تنبع من منزلتها الكبيرة في الشريعة الإسلامية، إلاّ أنه في الوقت الحاضر ظهرت بعض المؤشرات التي خرجت بها عن مسارها الصحيح، وأصبح الناس يلجؤون إلى أشخاص غير مُلمين بعلوم الشريعة (الكتاب والسنة)، فأصبح الواعظ يُفتي، والداعية يُفتي، وإمام المسجد يُفتي، مما أحدث نوعاً من “العشوائية”، على الرغم من الجهود الكبيرة التي تبذلها “هيئة كبار العلماء” في معالجة الخلل وإفتاء الناس.
لذا، لابد من الالتزام بما جاء به قرار خادم الحرمين الشريفين، حيث أناط ذلك بسماحة المفتي، وقصرها على هيئة كبار العلماء ومن يرفع سماحة المفتي ممن يرى فيهم الكفاية، كذلك لابد من تأهيل جيل من المفتين على مستوى عال من الكفاءة والمؤهل العلمي والنضج، إضافةً إلى أهمية توعية أفراد المجتمع لمعرفة أين يتجهون في المسائل، إلى جانب ضرورة تسهيل وصول المستفتي إلى المواقع الرسمية، لضمان عدم لجوئه إلى غير المختصين في الفتوى.
ويتحدث الشيخ سعد بن تركي الخثلان، عضو هيئة كبار العلماء، عن أهمية الفتوى ومكانتها في التشريع قائلاً، “إن الفتوى لها مكانة عظيمة في دين الله عز وجل، وقد تولى الله منصب الافتاء بنفسه “يستفتونك قل الله يفتيكم”، ولاحظوا هنا أن الله تعالى نسب الإفتاء إليه جل وعلا، “قل الله يفتيكم”، وتكرر ذلك في القرآن في أكثر من موضع، مضيفاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفتي الناس، ثم بعد ذلك كان علماء الإسلام يفتون الناس فيما يحتاجون إليه في أمور دينهم، مبيناً أن الفتوى منزلتها عالية ورفيعة في الشريعة الإسلامية، لهذا عني العلماء بهذا الموضوع وصنفوا فيه مصنفات، ذاكراً أن معظم كتب أصول الفقه تفرد أبواباً خاصة في الفتوى وما يتعلق بذلك من مسائل وأحكام، مشيراً إلى أن الأحكام الشرعية ثابتة لا تتغير؛ لأنها مستمدة من الكتاب والسنة، أمّا الفتوى فإنها تتغير بتغير الزمان والمكان.
وأضاف، “للفتوى ضوابط وشروط، وقد ذكر العلماء أن الإفتاء لا يتولاه إلاّ من بلغ رتبة الاجتهاد، والاجتهاد له شروط، حيث نجد بعض علماء الأصول يشددون الشروط، حتى أنه لو كانت على “أبو بكر” و”عمر” -رضي الله عنهما- ما انطبقت”.
وأوضح الشيخ “سعد الخثلان” أنه ليس كل من طلب العلم يكون مؤهلاً للفتيا، وإنما تحتاج إلى شروط من أبرزها، أن يكون لدى المفتي علم ورسوخ في علوم الشريعة من الكتاب والسنة، وأن يكون لديه معرفة بواقع الناس وبحال الناس، وأشار الشيخ “الخثلان”، إلى أننا نلاحظ في واقع المجتمع كثيراً من العامة لا يميز بين من كان مؤهلاً للإفتاء وعيّن من لم يكن كذلك، وربما أحيانا يأتي إلى المسجد رجل يلقي كلمة ربما كون واعظاً ولكنه ليس مؤهلاً للإفتاء، واذا فرغ من كلمته لحقه بعض الناس واستفتوه ربما في نوازل ومسائل كبيرة وقد يفتيهم، مطالباً بتوعية المجتمع تجاه هذه القضية المهمة والكبيرة.
هذا، وقد أكد أ. د. عياض السلمي، مدير مركز التميز البحثي لقضايا الفقه المعاصر بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، على أن المفتي يكتسب شرفه ليس من تعيينه في ذلك المنصب، وإنما يكتسبه من العلم، فالعلماء ورثة الأنبياء، “الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم”، ذاكراً أن “الشاطبي” قال، “إن المفتي الحق الذي يستحق هذا المنصب، هو من يحمل الناس على الوسط دائماً في دين الله، فلا يحملهم الشطط الذي قد ينقطع بهم، ولا يحملهم على التساهل الذي يجعلهم ينفلتون من ربقة الدين”.
وحول واقع الفتوى اليوم في المملكة، أكد أ. د. عبدالعزيز العسكر، أستاذ الدراسات العليا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، على أن واقع الفتوى في المملكة إلى حد ما جيد؛ نظراً لوجود هيئات رسمية معتبرة كهيئة كبار العلماء بلجنتها الدائمة، والتي تؤدي جهوداً جيدة ومشكورة في إفتاء الناس، مطالباً بتوسيع المسؤولين عن الفتوى تحت إشراف هيئة كبار العلماء ودار الإفتاء، وهذا ما بدأت به دار الافتاء مشكورة في تعيين مفتين في مناطق المملكة ومحافظاتها، متأسفاً على أن الناس أصبحوا لا يلتزمون بالجهات الرسمية، فإذا رأوا إنساناً مفوهاً وخطيباً لسناً وواعظاً مؤثراً ظنوا أنه يملك العلم نواصيه، وهنا ينبغي التفريق، حتى يتبين للناس أن الفتوى لا تؤخذ من كل أحد، ولا تؤخذ كذلك من كل طالب علم، مُشدداً على أهمية وجود قدرة على الاستنباط، ولابد مع الفقه كذلك الاطلاع على العلوم الأخرى.
وحول توجه الناس للبحث عن الفتوى عبر المواقع الالكترونية، علّق “أ. د. عياض السلمي”، معتبراً أنّ ذلك ليس من مهمة العلماء، وإنما من مهام الاعلام بالدرجة الأولى، من خلال تحذير الناس من الانخداع بالعناوين الرنانة، مع إرشادهم إلى كبار أهل العلم الموجودين، وأن يوضح للمجتمع أن هؤلاء هم المرجعية في ذلك المجال.
وفي سياق متصل، أكد أ. د. عبدالعزيز العسكر، أنه يجب على الجهات الرسمية المنوط بها الفتوى أن تنشط في الانترنت وفي مواقع التواصل الاجتماعي، وبأن تقرب نفسها إلى الناس في العالم الافتراضي، وأن تضع مواقع سهلة الوصول للدخول إليها، على أن تضم علماء يجيبون على مدار الساعة، مبيناً أن وزارة الشؤون الاسلامية نجحت هذا العام بوضع الخط الساخن في كل ما يتصل حيث تعطي الجواب لكل سائل.
كما أشار الشيخ “سعد الخثلان”، إلى إن الفتاوى لا يجوز أخذها عبر “الانترنت” مباشرة، وإنما يحق للمسلم له أن يستفيد فقط من بعض المواقع الموثوقة، مشيراً إلى أنه كفتوى شخصية لابد للشخص أن يتصل بالمفتي حتى يعرف واقعه، ذاكراً أن الفتاوى التي تُطلق على “تويتر” أو “الواتساب” تحتاج إلى ضبط.
وحول الاتجاهات الفكرية الموجودة وعلاقتها بالفتوى، أكد “أ. د. عبدالعزيز العسكر” على أن الفتوى لم تلعب دوراً في ذلك، لكنها استخدمت لأجل نصرة اتجاه معين، حتى وصل الأمر إلى تكفير بعض الاتجاهات التي لا تنطبق عليها شروط شرعية في التكفير، رغبةً في نصرة جهة إلى جهة، أو بمعنى أصح تزكية جهة إلى جهة في انتخابات سياسية أو بلدية أو غيرها في بعض المجالات، متأسفاً على ان الفتوى استخدمت لدعم بعض التوجهات الفكرية التي أضرت بالمجتمع وبالشباب على وجه الخصوص، بل وزجّت بهم في مناطق القتال والفتن.
وأضاف ” أ. د. عبدالعزيز العسكر”، أن الفتاوى التحريضية لم تكن معروفة عند أهل العلم المحققين، مبيناً أن تلك الفتاوى جاءت ممن تسلقوا سور الفتوى، وممن ينطلق نحو اتجاهات سياسية وفكرية وثقافية، حيث يتخذ الفتوى طريقاً للوصول إلى تحقيق أهدافه.
وقال: الفتوى التحريضية اليوم كثيرة وأثرها خطير على المجتمع، وهي غالباً ما تكون في الشأن العام الذي يخص المجتمع، ذاكراً أن الآية الكريمة تقول: “وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به”، هذه الآية واضحة جداً؛ لأن الأمر يتعلق بالأمن والخوف، وليس المقصود فقط الأمن والخوف فيما يتعلق بالأمن العام وبالأمن العسكري والأمن الاقتصادي والأمن الاجتماعي، فالقضايا العامة التي تمس أكبر عدد من الناس تعد من الشأن العام الذي ينبغي أن يرجع فيه إلى أهل الفتوى المنوط بهم المهمة، والذين يمثلون المؤسسات الرسمية، والذين يناقشون هذه القضايا قبل أن يفتوا فيها ويدرسونها حتى تبرأ بهم الذمة.
وأشار إلى أن الفتاوى التحريضية فرصة لتفريغ المجتمع، وتأليب بعضهم على بعض، وتحريك الطائفية والقبلية، بل وتكريس العنصرية والتمايز الطبقي.
وعلّق الشيخ “سعد الخثلان” قائلاً: إن وسائل التواصل الاجتماعي في الوقت الحاضر أصبحت تسهم في نشر الفتاوى التحريضية، وعلى سبيل المثال “تويتر”، ما أن تكون هناك فتوى تحريضية إلاّ وتنشر على نطاق واسع، وربما وضع “هاشتاق” بهذه الفتوى، بحيث يدخل فيها كل من “هب ودب”، لتنتشر انتشاراً واسعاً في وقت وجيز.
وأكد الشيخ “سعد الخثلان” على أن الفتاوى المسيسة، أو غير المسيسة، أو المضللة موجودة منذ قديم الزمان، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر عن ذلك وقال: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العلماء، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقَ عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسُئلوا فافتوا بغير علم فضلوا وأضلوا”. وقال: قد يكون هناك من يتخذ رؤوساً جهالاً، أو قد لا يكونوا جهالاً لكن ليس لديهم الورع، وعندهم رقة في الديانة، فيأتون بفتاوى مضللة أو فتاوى مسيسة لأهداف معينة تحقق لهم أغراضاً محددة.