بعد حديث القرآن الكريم عن مسائل الطلاق والرضاعة، أتبع ذلك بالحديث عن عدة الوفاة، فقال تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف} (البقرة:234)، هذه الآية تتحدث عن عدة الزوجة المتوفى عنها زوجها، وفيما يلي ذكر لأهم الأحكام المتعلقة بهذه الآية، وذلك في المسائل التالية:
المسألة الأولى: ذهب جمهور أهل العلم إلى أن هذه الآية ناسخة لقوله عز وجل: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج} (البقرة:240) فقد كانت المرأة قبل الإسلام إذا توفى زوجها تعتد حولاً كاملاً، ثم نُسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر، وهذه الآية وإن كانت متقدمة في (التلاوة) على آية الاعتداد بـ (الحول) إلا أنها متأخرة في (النزول)؛ فإن ترتيب المصحف الذي بين أيدي الناس ليس على ترتيب النزول، بل هو توقيفي، فتكون ناسخة. روى البخاري في “صحيحه” عن عبد الله بن الزبير، قال: (قلت لعثمان: هذه الآية: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم} قد نسختها الآية الأخرى -يقصد الآية التي معنا- فلِمَ تكتبها، قال: لا أغير شيئاً منه عن مكانه يا ابن أخي) فاقتضى أن هذا هو موضع هذه الآية، وأن الآية التي قبلها ناسخة لها، وعليه فيكون وضعها هنا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقول عثمان رضي الله عنه: (لا أغير شيئاً منه عن مكانه). قال القاضي عياض: “والإجماع منعقد على أن الحول منسوخ، وأن عدتها أربعة أشهر وعشر”.
المسألة الثانية: الآية صريحة في أن عدة المتوفى عنها زوجها هي أربعة أشهر وعشرة أيام، غير أن الآية ليست على عمومها، بمعنى أنها لا تشمل كل متوفى عنها زوجها، وإنما هي خاصة بغير الزوجة الحامل، فالزوجة الحامل عدتها أن تضع حملها؛ لقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} (الطلاق:4)، فهذه الآية مخصصة لعموم قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا}.
المسألة الثالثة: روي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما أن المتوفى عنها زوجها تعتد بأبعد الأجلين، بمعنى أن وضعها إذا كان سيكون بعد أكثر من أربعة أشهر وعشرة أيام، فتعتد بوضع الحمل، وإن كان وضعها سيكون قبل أقل من أربعة أشهر وعشرة أيام، فتعتد بالأربعة أشهر والأيام العشرة، وهذا من باب الاحتياط. والذي عليه العمل وجمهور أهل العلم أن عدة الحامل المتوفى عنها زوجها هي وضع حملها، ولو كان بعد فترة وجيزة من وفاة زوجها. روي عن عمر رضي الله عنه قوله: “لو وضعت حملها، وزوجها على سريره لم يدفن، لحلت للأزواج”. وقال ابن شهاب: “ولا أرى بأساً أن تتزوج حين وضعت، وإن كانت في دمها، غير أن زوجها لا يقربها حتى تطهر”.
المسألة الرابعة: المراد بـ (الإحداد) هو ترك الزينة، والتطيب، والخضاب، ومصبوغ الثياب إلا الأبيض، والتعرض لأنظار الخاطبين. وذهب بعض أهل العلم إلى أن الإحداد إنما يكون بالتربص عن الأزواج والنكاح خاصة. والمعتمد ما تقدم. قال ابن كثير: “والإحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطيب، ولبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب وحلي وغير ذلك، وهو واجب في عدة الوفاة قولاً واحداً”.
ووجوب الإحداد ثابت بالسُّنة، ففي “الصحيحين” قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدَّ على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً).
وقد استنبط بعض العلماء وجوب (الإحداد) من قوله تعالى: {فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن} أي: من زينة وتطيب، فيفيد تحريم ذلك في العدة، وهو استنباط حسن دقيق.
المسألة الخامسة: يجب الإحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن، سواء في ذلك الصغيرة، والآيسة، والمسلمة، والذمية كما في قول جمهور أهل العلم. وذهب أبو حنيفة وفي رواية أشهب عن مالك أن الزوجة الذمية لا يلزمها الإحداد على زوجها المسلم.
المسألة السادسة: الزوجة غير المدخول بها عليها عدة الوفاة، دون عدة الطلاق؛ لعموم هذه الآية، ولأن لها الميراث، فالعصمة تقررت بوجه معتبر، حتى كانت سبب إرث، وعدم الدخول بالزوجة لا ينفي احتمال أن يكون الزوج قد قاربها خفية؛ إذ هي حلال له، فأوجب عليها الاعتداد احتياطاً لحفظ النسب.
المسألة السابعة: مذهب جمهور أهل العلم أن المتوفى عنها زوجها تعتد في بيت الزوجية، ولا تخرج من بيتها؛ وفي “الموطأ” أن عمر رضي الله عنه كان يرد المتوفى عنهن أزواجهن من البيداء، يمنعهن الحج. وروي عن علي وابن عباس وجابر وعائشة رضي الله عنهم أن المتوفى عنها زوجها ليس عليها أن تعتد في بيتها، وتعتد حيث شاءت، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنما قال الله تعالى: {يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} ولم يقل يعتددن في بيوتهن، ولتعتد حيث شاءت. وهذا مذهب داود الظاهري، وروي عن أبي حنيفة. وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها تفتي المتوفى عنها زوجها بالخروج في عدتها. وروي عن القاسم بن محمد قوله: أبى الناس ذلك عليها. وقال الزهري: “أخذ المترخصون في المتوفى عنها زوجها بقول عائشة، وأخذ أهل الورع والعزم بقول عمر”.
وملازمة معتدة الوفاة بيت زوجها ليست مأخوذة من هذه الآية؛ لأن (التربص) في قوله سبحانه {يتربصن بأنفسهن} تربص بالزمان، لا يدل على ملازمة المكان، قال ابن عاشور: “والظاهر عندي أن الجمهور أخذوا ذلك من قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج} البقرة:240) فإن ذلك الحكم لم يقصد به إلا حفظ المعتدة، فلما نسخ عند الجمهور بهذه الآية، كان النسخ وارداً على المدة وهي الحول، لا على بقية الحكم، على أن المعتدة من الوفاة أولى بالسكنى من معتدة الطلاق، التي جاء فيها: {لا تخرجوهن من بيوتهن} الطلاق:1) وجاء فيها {أسكنوهن من حيث سكنتم} (الطلاق:6)”.
والذي عليه المفسرون والفقهاء أن وجوب ملازمة البيت للمرأة المتوفى عنها زوجها ثابت بالسنة ففي “الصحاح” و”الموطأ” أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للفريعة ابنة مالك بن سنان الخدري، أخت أبي سعيد الخدري لما توفي عنها زوجها: (امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله) وهو حديث مشهور.
ثم إن القائلين بوجوب لزوم الزوجة المتوفى عنها زوجها مسكن زوجها، قالوا: يجوز لها أن تخرج في حوائجها من وقت انتشار الناس بكرة إلى وقت هدوئهم بعد العتمة، ولا تبيت إلا في منزل زوجها. قال مالك: “وإن كانت الضرورة، فإن دين الله يسر”.
المسألة الثامنة: إذا جاء الزوجة نعي زوجها، وهي في بيت غير بيت زوجها، يلزمها الرجوع إلى مسكن الزوجية والقرار فيه. وهذا مروي عن عمر بن عبد العزيز، وهو قول مالك. وقال سعيد بن المسيب والنخعي: تعتد حيث أتاها الخبر، لا تبرح منه حتى تنقضي العدة. قال ابن المنذر: قول مالك صحيح، إلا أن يكون نقلها الزوج إلى مكان، فتلزم ذلك المكان.
المسألة التاسعة: مذهب جمهور أهل العلم أن العدة في الوفاة من يوم موت الزوج، وليس من يوم بلوغ الخبر الزوجة. وروي عن علي رضي الله عنه أن عدتها من يوم يبلغها الخبر، وبه قال الحسن البصري وقتادة وعطاء. وأجمع أهل العلم على أن الزوجة لو كانت حاملاً، ولم تعلم بوفاة زوجها، ثم وضعت حملها أن عدتها منقضية، ولا عدة عليها بعد العلم.
المسألة العاشرة: مذهب مالك وأحمد أن الزوجة الحامل المتوفى عنها زوجها لا نفقة لها؛ لأنهم أجمعوا على أن نفقة كل من كان يجبر المتوفى على نفقته وهو حي، مثل أولاده الأطفال وزوجته ووالديه تسقط عنه، فكذلك تسقط عنه نفقة الحامل من أزواجه. وروي عن علي رضي الله عنه أن لها النفقة من جميع المال، وبهذا القول قال ابن عمر رضي الله عنهما، وثلة من التابعين.
المسألة الحادية عشرة: تحريم الإحداد على غير الزوج فوق ثلاث؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشراً) متفق عليه. وإباحة الإحداد عليهم ثلاثاً تبدأ من الليلة التي تستقبلها إلى آخر ثالثها، فإن مات قريبها في بقية يوم أو ليلة ألغته، وحسبت من الليلة القابلة.
المسألة الثانية عشرة: أجمع العلماء على أن من طلق زوجته طلاقاً يملك رجعتها، ثم توفي قبل انقضاء عدتها، أن عليها عدة الوفاة، وترثه. واختلفوا في عدة المطلقة ثلاثاً في المرض، ثم توفي عنها؛ فقال مالك والشافعي تعتد عدة الطلاق؛ لأن الله تعالى جعل عدة المطلقات ثلاثة قروء، وقد أجمعوا على أن المطلقة ثلاثاً، لو ماتت لم يرثها المطلِّق؛ لأنها غير زوجة له، وإذا كانت غير زوجة، فهو غير زوج لها. وقال أبو حنيفة ومحمد: عليها أربعة أشهر وعشر تستكمل في ذلك ثلاث حيض.
المسألة الثالثة عشرة: ذكر العلماء لحكمة مشروعية العدة وجوهاً عديدة نجملها فيما يلي:
أ- معرفة براءة الرحم حتى لا تختلط الأنساب بعضها ببعض.
ب- التعبد امتثالاً لأمر الله عز وجل، حيث أمر بها النساء المؤمنات.
ج- إظهار الحزن والتفجع على الزوج بعد الوفاة؛ اعترافاً بالفضل والجميل. قال العلماء: وإنما وجب الإحداد على الزوجة وفاء للزوج، ومراعاة لحقه العظيم عليها؛ فإن الرابطة الزوجية أقدس رباط، فلا يصح شرعاً، ولا أدباً أن تنسى الزوجة ذلك الجميل، وقد كانت المرأة تحد على زوجها حولاً كاملاً؛ تفجعاً وحزناً على زوجها، فنسخ الله ذلك، وجعله أربعة أشهر وعشراً. والحكمة من الإحداد سد ذريعة كل ما يوسوس إلى الرجال من رؤية محاسن المرأة المعتدة، حتى يبتعدوا عن الرغبة في التعجل بما لا يليق.
وحاصل ما تقدم أن هذه الآية جاءت لتبطل عادة من عادات العرب في الجاهلية؛ حيث كان من عادتهم المتبعة أن المرأة إذا توفي عنها زوجها، تمكث في شر بيت لها حولاً كاملاً، محدة، لابسة شر ثيابها، متجنبة الزينة والطيب، فلما جاء الإسلام أبطل ذلك الغلو في سوء الحالة، وشرع عدة الوفاة {أربعة أشهر وعشرا}، والإحداد على غير الزوج ثلاثة أيام فقط.