عرفنا في منشور سابق أن لإصدار الفتاوى السياسية من قبل المرجعيات الدينية آلية وتعرفنا على ركائز ومراحل تلك الآلية ، وكانت إحدى تلك المراحل هي آلية تنفيذ تلك الفتاوى ، لأن المرجعية الدينية واعية وتعلم أن ترك تنفيذ الفتاوى السياسية بيد الناس أمر غير صحيح منافي للحكمة ، لأن أي إساءة لتنفيذ تلك الفتوى سينعكس على المجتمع سلباً بل وعلى الدين بصورة عامة والمرجعية عموماً بصورة خاصة ، لأن المجتمع في هذه الحالة ينظر الى أن الفتاوى الدينية لا تناسب الواقع وبالتالي فالدين مكانه المسجد وإلا سيكون مضراً بالمجتمع ، ولعدم وجود ألية صحيحة لتنفيذ الفتاوى السياسية تولدت هذه النظرة ضد التنظيمات الإرهابية بسبب تلك الفتاوى الغير مدروسة والغير مطابقة للشريعة والتي طُبِّقت بشكل يعكس همجية من اصدرها ومن نفّذها ، وبالتأكيد فإن المرجعية لا تريد أن تكون صورة الدين كتلك الصورة المنقولة عن التنظيمات الإرهابية ، كما أنها لا تريد أن تفسد من حيث تصلح ، فبدل أن تستفيد الأمة من فتاواها ومواقفها تتضرر بسبب عدم ضبط كيفية تطبيقها وتنفيذها .
والآلية اللازمة لتنفيذ الفتاوى السياسية تحتاج الى توفر ظروف بدونها إما أن تكون الآلية فاشلة أو أن تنفيذها يكون فاشلاً ، ومن هذه الظروف :
– جهة منفذة للفتوى
في حادثة تروى عن السيد الخميني عند اندلاع الحرب العراقية الإيرانية حيث كانت هناك حاجة للتجنيد لسد بعض الثغرات في الجبهة ، فما كان على السيد الخميني إلا أن كتب قصاصة ( على المؤمنين أن يملأوا جبهات القتال ) وبهذه القصاصة حشّد الشعب الإيراني لمواجهة القوات العراقية ، ولكن هل ترك السيد الخميني عملية التحشيد عشوائية بحيث يتبناها كل من هبّ ودبّ وكل من يريد أن يستغل العواطف والمشاعر المؤيدة لفتوى السيد الخميني لصالحه ؟! بالطبع لا ، حيث كان متأكداً من وجود مراكز التطوع ومعسكرات التدريب وتجهيز المقاتلين وتوزيعهم على الفيالق والفرق العسكرية حتى يكون تطبيقهم وتنفيذهم لهذه الفتوى بشكل نظامي ومرتب ومدروس بحيث تكون الأخطاء أقل ما يمكن ، ولولا وجود جهات منفذة لتلك الفتوى وغيرها من الفتاوى التي كان يطلقها السيد الخميني من قبل انتصار الثورة الإسلامية لما انتصرت الثورة اصلاً ولا استطاع أن يقاوم عدوان صدام الذي استمر ثمان سنوات بنظام حديث النشأة وهو النظام الإسلامي .
لذا فمن الضروري وجود جهة تنظم وتنفذ الفتوى بحيث تضمن المرجعية أن فتواها قد أخذت صداها ومداها الشعبيين وفق ما رسمته المرجعية لها لا وفق من يأخذ الفتوى ويطبقها وفق هواه ومصالحه السياسية والحزبية ، وهذه الجهة المنفذة للفتوى مشكلة من قبل المرجعية وإن لم تشكلها فأن المرجعية مقتنعة بإمكانيتها للقيام بهذه المهمة ، وبإشراف المرجعية توضع الآلية التي تنظم تطبيق الفتوى وتنفيذها ، وقد تكون هذه الجهة سياسية (حزب سياسي أو ما شاكل) إذا كانت الفتوى سياسية أو جهة تناسب الفتوى التي تصدرها المرجعية ، وبوجود هذه الجهة تقطع المرجعية الطريق عن كل من يريد أن يصعد على أكتافها لتحقيق غاياته لأن الأمة تعلم أن تنفيذ فتوى مرجعيتهم لا يكون إلا عن طريق تلك الجهة المنفذة فترفض – الأمة – أي محاولة من قبل الجهات السياسية التي تريد أن تخدعها بحجة (فتوى المرجعية) .
أما إذا لم تكن مثل هذه الجهة موجودة فسوف لن تجد فتوى المرجعية طريقها للتنفيذ بالشكل الذي تريده المرجعية ، فقد تنفّذ الفتوى ولكن وفق سياسة الجهات التي تتبارى لخداع الأمة وهذا لا يضمن مصلحة الأمة ، وعندها ستكون الأمة تبعاً للجهات السياسية المتصارعة على المنصب لا لفتوى وقول المرجعية ، فظاهراً الأمة تتبع المرجعية وحقيقة أنها تتبع تلك الجهات الوصولية الصعودية الانتهازية التي استغلت عدم وجود جهة تمثل المرجعية كي تخدع الناس من خلال أساليبها الخبيثة وأموالها الطائلة وإعلامها المؤثر بأنها هي الجهة القادرة على تنفيذ فتوى المرجعية ، وبالتالي سيكون الناس منجذبين لأي جهة أقدر على خداعهم لا وفق تطبيقها لفتوى مرجعيتهم .
– تأييد شعبي
رغم أهمية الجهة المنفذة لفتوى المرجعية التي تناولناها في النقطة السابقة إلا أن الاكتفاء بها والاعتماد عليها فقط لا يؤتي بالثمار المرجوة من الفتوى ، لأن منفّذ الفتوى الحقيقي هو الشعب وما تلك الجهة التي ذكرناها إلا جهة منظمة وحلقة وصل بين المرجعية والأمة ، وكلما وعت الأمة حقيقة الفتوى والفلسفة من ورائها ورؤية المرجعية للأحداث التي دعتها لإصدار تلك الفتوى كان تنفيذ الفتوى أبلغ وأقوى ، وهذا يعني أن التأييد الشعبي الذي نقصده ليس تأييداً عددياً ببغاوياً ، وإنما يجب أن يكون كبيراً من ناحية العدد والوعي ، فتأييد شعبي كبير بلا وعي يسمح لأصحاب النفوذ السياسي والإعلامي والمالي الى إيهام الأمة بعدم جدوى الفتوى التي أطلقتها المرجعية بحجج مثل (المدنية) و (ضرورة عدم تدخل الدين في السياسية) و (أن الدين مكانه المساجد) و (السياسة فن المكر والخداع والدين لا يتناسب معها) ، فتكون الأمة عندها مؤيدة للمرجعية ولفتواها لكنها غير منفذة لها بل قد تكون متجهة عكس التيار ، وأما التأييد الواعي بلا عدد فلا يكفي لإحداث شيء على أرض الواقع وبالتالي ستكون الفتوى أشبه وأقرب لأن تكون حبراً على ورق .
– غطاء قانوني
وبدون الغطاء القانوني تصبح الفتوى أشبه بفتاوى الإرهاب التي أخلّت بالنظام العام للدولة وبدل أن تصلح فقد أفسدت ، وهذا ما يميز الثقافة الشيعية عن ثقافة الإرهاب والتكفير ، فالمرجعية الدينية ترى ضرورة أن يحافظ على النظام العام للدولة حتى وإن كانت الدولة مخالفة لما تراه المرجعية ، لأن حفظ النظام مع كونه غير مطابق للشريعة خير من اللانظام الذي يسعى الانتهازيون اليه كي يحققوا مآربهم الشريرة ، لأن المرجعية تعتبر هذا النظام الغير الشرعي أشبه بأكل الميتة الذي يضطر له المسلم حفاظاً على حياته الى أن يتوفر الأكل الشرعي المناسب .
لذا لا نتوقع أن تصدر المرجعية فتوى ليس لها غطاء قانوني ، لأن ذلك سيوقعها في حرج وإحراج إعلامي وشعبي ودولي ، والعمل خارج القانون سيسمح للآخر الذي يريد انتهاز مثل هذه الفرصة للتجاوز على القانون وبالتالي ستعم الفوضى وسيكون المسبب هو المرجعية ، فإطلاق الفتاوى وفق الأطر القانونية يكشف أن الدين سلوك حضاري مدني منظم لا كما يصوره الإرهابيون ، وعليه فإن الفتوى إذا صدرت خارج الأطر القانونية سيكون انعكاسها سلبي لا إيجابي فتنقلب الغاية من الفتوى من إصلاحية الى إفسادية وهذا ما لا ترغب به المرجعية الدينية .
مما تقدم ووفق الآلية التي بينّاها نعرف سبب ندرة الفتاوى الدينية في الجانب السياسي وندرة من يصدّرها ، فإما أن لا تكون هناك جهة منفذة للفتوى مرتبطة بالمرجعية بشكل مباشر كما هو أغلب المرجعيات الدينية في العراق ، أو عدم وجود تأييد شعبي كمي ونوعي للفتوى وهو ما تعاني منه المرجعيات الدينية المؤمنة بولاية الفقيه لأن غالبية الشيعة ترجع لمرجعيات لا ترغب بالتدخل في السياسية ، أو أن يكون الغطاء القانوني غير متوفر ، وبالتالي فكل ما يصدر من المرجعيات الدينية نحمله على أنه دعوة أو توصية أو توجيه أو تنبيه أو …. إلا أن تكون الفتوى واضحة وصريحة لا تقبل الالتباس والشك والجدال .