بقلم / اشتياق آل سيف
——————————————-‐———‐–
سأكتب اليوم عن فتاة غادرت أحضان عائلتها قبل إتمام العقد الثاني من عمرها المديد ان شاء الله بالصحة و العافية متسلحة بالأمل متقلدة العزيمة و طموحها يعانق السحاب تتنفس النجاح حتى تكاد تلمس شغاف قلبها المملوء بالمحبة الصادقة و الحب اللا مشروط لمن يستحقه .
تلك شقيقة الروح و الدم و المشاعر . تلك التي لم أجد شبيهاً لروحي و قلبي و تفكيري مثلها و التي أراها دوماً توأم الروح حيث تفهمني بلا حديث و تشعر بي دون أن أبثها شكواي و تئن معي لأي وجع في جسد العائلة دون أن تعلم بتفاصيله لا سيما إن أصاب والدتها أو أحد اخوتها أو أخواتها .
أعلم أنها بالكاد يمكنها انتزاع بضع دقائق من ساعات يومها الأربعة و العشرين كي تستريح على دكة الذكريات أو في فضاء الغرف الافتراضية و تسعد قلبها بسماع صوت الوالدة الحنونة و اخواتها تبدد بذلك وحشة الغربة و تتحايل على إرهاق العمل في يوم تقضي نصف ساعاته في أقدس وظيفة ضمن العمل الإنساني كطبيبة جراحة أطفال و ما أصعبها من مسؤولية حيث يكون أقصى اهتمامها كيف تعيد البسمة على وجوه الوالدين الذين ينتظرون برجاء و خوف خلف باب غرفة باردة بصقيع الوحدة رهيبة بأجهزة و تمديدات تلتف حول جسد ضعيف هو قطعة من روحيهما و يتطلعون لرؤية وجهها باسماُ حال خروجها من ذلك الباب فيعلمون أنها استطاعت بإذن الله و بركة محمد و آله ثم قوة احترافها المهني إنقاذ روح البراءة و أعادة السعادة و الحيوية للطفل أو الطفلة التي كانت تحت رحمة الله و الثقة بمهارتك و قدرتك على تحمل ضغوط العمل و ساعاته الطويلة التي تقف معظمها تردين عملك باطمئنان و تركيز معتمدة على توفيق من الله و دعوات والدتها تحوطها بسياج من الأمان و الثقة المطلقة .
أكتب لها و عنها و أشاركها كل الذكريات التي لا زالت تعشق تفاصيلها حتى بعد أن زادت مشاغلها و تضاعفت هوة المسافة المكانية بيننا بيدَّ أننا لا زلنا صديقتين شقيقتين رغم تقصيري في التواصل معها لكثرة مسؤولياتي الا أنها تخجلني حين أراها تتصل بي في الوقت الذي أشعر بالحاجة الى صديقة لتثبت لي أن الأخت بالدم لا يشبهها أي أحد في صدق المشاعر و الوفاء للعشرة و سنوات الطفولة و الصبا التي تجمع الأخوات و الإخوة تحت مظلة العائلة و تربية الوالدين لأولادهم على المحبة الترابط الأسري .
أكثر ما يذيبني خجلاً هو شدة و دوام تواصلها مع والدتها بشكل يومي و هي الطبيبة المغتربة التي تغادر منزلها للعمل قبل السابعة و النصف صباحاً لتعود بعد صلاة المغرب في دولة أوروبية لا تودع الشمس يومها قبل الثامنة أحياناً حسب توقيتهم الذي يزيد من قسوة الشتاء القارس بطول ليله و شدة برودة الطقس ، بينما أنا و أمثالي من الموظفات و الأمهات اللاتي ينهون أعمالهن الوظيفية قبل الثانية ظهراً و لربما استعن بعاملة منزلية في أداء المهام المنزلية المعتادة و مع ذلك لا نوفق في زيارة أمهاتنا أو تلقي اتصالهن الحنون بذرائع انشغالنا رغم أن المسافة بين منازل أسرنا قد لا تزيد عن ربع ساعة ، لكنه التوفيق من الله لبر الوالدين و استثمار أي فرصة لاسعادهم .
كلما شعرت بالحنين إليها و أرهقني التفكير في مرور خمسة عشر سنة لم نراها فيها الا كيف عابر يمر كل سنتين أو ثلاث بضعة اسابيع تمر كالضوء من سرعتها فالأيام الجميلة لا سيما بعد فراق طويل تمر سريعا كماء يتسرب من أيدي المغتربين و كطير لم يطل المكوث على شجرة الأسرة حتى حان موعد تحليقه ثانية في فضاء عمله و سعيه الحثيث لتأمين رزقه و العيش عيشة كريمة .
أدعو الله لها و لكل أبناءنا و بناتنا المغتربين بالتوفيق و السداد و أن يحفظهم الله من مكاره الغربة و يبارك في أعمارهم و أرزاقهم و يعودون لوطنهم و أهلهم رافعين الأعناق فخراً يتقلدون وسام نجاحهم و يحملون رموز انجازاتهم و يحققون أحلاماً عانقت أرواحهم وكانت بذرة صغيرة سقوها بالصبر و الجهد و الاصرار و العزيمة فأنتجت ثمار نجاحهم و أزهار أبداعهم .
يتبع في الجزء ( ٣ ) من مذكرات طبيبة مغتربة