من المعلوم أن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى ، وأن العبد لا يدري على وجه اليقين عواقب الأمور ؛ فقد يظن العبد أن ما هو مقدم عليه فيه الخير وتأتي النتائج على خلاف ما توقع كما قد يحدث العكس.من أجل هذا كان حريا بالعبد عند إقدامه على أمر من الأمور المباحة أن يتفكر وأن يستخير الله تعالى ويستشير من يثق برأيه وخبرته وأمانته؛فما خاب من استخار الخالق واستشار المخلوق، وقد روى جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: “إذا همَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر – يسمي حاجته – خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله، فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله؛ فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم ارضني به”.
قال: “ويسمي حاجته” أي يسمي حاجته عند قوله: “اللهم إن كان هذا الأمر” [رواه البخاري].
وهذا دليل على العموم، وأن المرء لا يحتقر أمرًا لصغره وعدم الاهتمام به، فيترك الاستخارة فيه، فرُب أمر يُستخف به يكون في الإقدام عليه ضرر عظيم أو في تركه.
فيُسن لمن أراد أمرًا من الأمور المباحة والتبس عليه وجه الخير فيه أن يصلي ركعتين من غير الفريضة، ولو كانتا من السنن الراتبة أو تحية المسجد في أي وقت من الليل أو النهار، يقرأ فيها بما شاء بعد الفاتحة ثم يحمد الله ويُصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بهذا الدعاء الذي رواه البخاري. والأولى أن يكون بعد التشهد وقبل التسليمتين، فإن لم يفعل دعا بدعاء الاستخارة بعد التسليمتين.
أحكام متعلقة بالاستخارة
ولا تجري الاستخارة إلا في أمر مباح كعقد صفقة تجارية وسفر مباح، والتزوج من فلانة.. أما الواجب والمندوب فهو مطلوب الفعل، والمحرم والمكروه مطلوب الترك.
وصلاة الاستخارة تجوز في أوقات الكراهة، ولم يصح في القراءة فيها شيء مخصوص، كما لم يصح شيء في استحباب تكرارها.
وعن أنس رضي الله عنه أنه قال: “لما تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالمدينة رجل يَلحدُ (شق في عرض الأرض) وآخر يُضرح (يدفن بلا لحد) فقالوا: نستخير ربنا ونبعث إليهما فأيهما سبق تركناه. فأرسل إليهما فسبق صاحب اللحد، فلحدوا للنبي صلى الله عليه وسلم”. [رواه أحمد وابن ماجه].
قال ابن أبي جمرة – رحمه الله تعالى -: “الاستخارة في الأمور المباحة وفي المستحبات إذا تعارضا في البدء بأحدهما، أما الواجبات وأصل المستحبات والمحرمات والمكروهات كل ذلك لا يُستخار فيه”.
وقال أيضًا: “الحكمة في تقديم الصلاة على دعاء الاستخارة: أن المراد حصول الجمع بين خيري الدنيا والآخرة فيُحتاج إلى قرع باب الملك، ولا شيء لذلك أنجع ولا أنجح من الصلاة لما فيها من تعظيم الله والثناء عليه والافتقار إليه مآلاً وحالاً”.
قال الطيبي – رحمه الله تعالى -: “سياق حديث جابر في الاستخارة يدل على الاعتناء التَّام بها”.
الاستخارة تجلب الخير
قال بعض أهل العلم: “من أعطى أربعًا لم يُمنع أربعًا: من أُعطي الشُّكر لم يُمنع المزيد، ومن أُعطي التوبة لم يُمنع القبول، ومن أُعطي الاستخارة لم يُمنع الخيرة، ومن أُعطي المشورة لم يُمنع الصواب”.
قال بعض الأدباء: “ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار”.
قال ابن الحاج في ضرورة الالتزام بالوارد في الاستخارة؛ لأن صاحب العِصمة صلى الله عليه وسلم أمر بالاستخارة والاستشارة لا بما يُرى في المنام، ولا يُضيف إليها شيئًا، ويا سُبحان الله، إن صاحب الشرع صلوات الله وسلامه عليه قد اختار لنا ألفاظًا منتقاة جامعة لخير الدنيا والآخرة، حتى قال الراوي للحديث في صفتها على سبيل التخصيص، والحض على التمسك بألفاظها وعدم العدول إلى غيرها: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يُعلمنا السُّورة من القرآن”.
ومعلوم أن القرآن لا يجوز أن يُغير أو يُزاد فيه أو يُنقص منه، ثم انظر إلى حكمة أمره عليه الصلاة والسلام الْمُكلف بأن يركع ركعتين من غير الفريضة، وما ذاك إلا لأن صاحب الاستخارة يُريد أن يطلب من الله تعالى قضاء حاجته، وقد قضت الحكمة أن من الأدب قرع باب تُريد حاجتك منه، وقرعُ باب المولى سبحانه وتعالى إنما هو بالصلاة، فلما أن فرغ من تحصيل فضائل الصلاة الجمة أمره صاحب الشرع عليه الصلاة والسلام بالدعاء الوارد”.
ولو لم يكن فيها من الخير والبركة إلا أن من فاعلها كان مُمتثلاً للسُّنة المطهرة مُحصلاً لبركتها، ثم مع ذلك تحصُلُ له بركةُ النطق بتلك الألفاظ التي تربو على كل خير يطلبه الإنسان لنفسه ويختاره لها، فيا سعادة من رزُق هذا الحال.
وينبغي للمرء أن لا يفعلها إلا بعد أن يتمثل ما ورد من السُّنة في أمر الدعاء، وهو أن يبدأ أولاً بالثناء على الله سبحانه وتعالى، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأخذ في دعاء الاستخارة الوارد، ثم يختمه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الأفضل أن يجمع بين الاستخارة والاستشارة؛ فإن ذلك من كمال الامتثال للسُّنة، وقد قال بعض السلف: “من حق العاقل أن يُضيف إلى رأيه آراء العلماء، ويجمع إلى عقله عقول الحكماء، فالرأي الفذُّ ربما زلَّ، والعقلُ الفرد ربما ضل”.
من ترك الاستخارة عرض نفسه للمتاعب
فعلى هذا؛ من ترك الاستخارة والاستشارة يُخافُ عليه من التعب فيما أخذ بسبيله لدخُوله في الأشياء بنفسه دون الامتثال للسُّنة المطهرة وما أحكمته في ذلك.
ماذا يفغل بعد الاستخارة؟
قال النووي: وينبغي أن يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح له، ولا يعتمد على انشراحٍ كان فيه هوىً قبل الاستخارة، بل ينبغي للمُستخير تركُ اختياره رأسًا، وإلا فلا يكون مُستخيرًا لله، بل يكون غير صادقٍ في طلب الخيرة وفي التبرّي من العلم والقُدرة وإثباتها لله تعالى، فإذا صدق في ذلك تبرأ من الحول والقوة ومن اختياره لنفسه.
(وقد ذكر بعض أهل العلم كالعلامة ابن عثيمين يرحمه الله أن العبد يمضي في حاجته بعد الاستخارة فإن رأى تيسيرا أتم عمله وإن رأى غير ذلك أحجم)
والاستخارة دليل على تعلق القلب بالله في سائر أحواله والرضا بما قسم الله، وهي من أسباب السعادة في الدنيا والآخرة، وفيها تعظيم لله وثناء عليه وامتثال للسُّنة المطهرة وتحصيل لبركتها، وفيها دليل على ثقة الإنسان في ربه ووسيلة للقرب منه.
والمستخير لا يخيب مسعاه وإنما يُمنح الخيرة ويبعد عن الندم. فاللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين.