من هو الرجل الذي شهد له النبي ولم يره ؟!

في تاريخ الإسلام رجال ونساء سطرت أسمائهم وسيره بحروف من نور، لما كانوا عليه من تقوى وصلاح.. منهم من شاهد النبي وتلقى عنه، ومنهم من جاء بعد انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى، ولكنه سار على قدم الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم.
وحديثنا في هذا المقال عن أن التابعين الصالحين من مستجابي الدعوة، شهد له النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبشر به، على الرغم من أنه لم يره لأن بره بأمه ورعايته لها أعاقته عن السفر لرؤية النبي، بل وطلب النبي من الصحابة الكرام إن قابلوه أن يسألوه الدعاء والاستغفار لهم.
إنه سيدنا “أويس القرني” القدوة الزاهد، خير التابعين كما قال عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الذي تعلم على يد كثير من الصحابة ونهل من علمهم حتى صار من أئمة التابعين زهدًا وورعًا. وقد تعلم منه خلق كثير، تعلموا منه بره بأمه، وتواضعه لربه رغم ما ورد في فضله من أحاديث.
مكانة أويس القرني:
لأويس القرني مكانة عظيمة عرفها الصحابة الكرام وعلى رأسهم الفاروق عمر بن الخطاب، والإمام علي بن أبي طلب رضي الله عنهما، لما جاء من حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه، حتى أن الإمام مسلم أفرد بابًا في صحيحه عن أويس القرني.
ولأويس القرني مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب والإمام علي بن أبي طالب قصة عجيبة روتها كتب السير والأعلام تدل على تمسك الصحابة الكرام وحرصهم على كل ما وصى به الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
بحث سيدنا عمر وعلي عنه:
تعود أحداث القصة إلى سنة ثلاث وعشرين للهجرة، عندما حج الخليفة الثان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبيل استشهاده بأيام، وكان شغله الشاغل في حجه على مدار عشر سنوات البحث عن رجل من رعيته من التابعين يريد مقابلته.
وعندما صعد عمر جبل أبا قبيس وأطل على الحجيج، ونادى بأعلى صوته: يا أهل الحجيج من أهل اليمن، أفيكم أويس من مراد؟ -وكانت هذه عادته في كل موسم حج على مدار عشر سنوات – ولم يكن أحد يجيب؛ لكن في هذه المرة أجاب رئيس وفد اليمن أنهم لا يعرفون أحد اسمه أويس إلا ابن أخ له، ولكنه فقير الحال ليس له ذكر ولا مكانه بين قومه، وهو موجود يرعى إبل قومه.
فقال له سيدنا عمر: أهو أشهل أزرق العين، ذو صهوبة، يعني أشقر ؟ فقال له: كأنك تعرفه يا أمير المؤمنين ؟
وبسرعة انطلق عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب- رضي الله عنهما-، وخرجا من مكة وتوجها إلى عرفة، وظلا يبحثان عنه حتى وجداه، وكان رجلًا يرتدي طمرين من صوف أبيض، وقد صف قدميه يصلي وبصره إلى موضع سجوده، وألقى يديه على صدره والإبل حوله ترعى.
فذهب سيدنا عمر والإمام علي إليه، فلما أتياه قالا له: من الرجل؟ قال: راعي إبل، وأجير قومي، قالا: لسنا نسألك عن ذلك، ما اسمك؟ قال: عبد الله، قال له الإمام علي رضي الله عنه: قد علمنا أن كل من في السماوات والأرض عبيد لله، ما اسمك الذي سمتك به أمك؟ قال : يا هذان، من أنتما؟! وما تريدان مني؟ أنا أويس بن عبد الله.
فقال سيدنا عمر- رضي الله عنه-: الله أكبر، يجب أن توضح عن شقك الأيسر، قال: وما حاجتكما إلى ذلك ؟ فقال له الإمام علي- رضي الله عنه-: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصفك لنا، وقد وجدنا الصفة كما خبرنا، غير أنه أعلمنا أن بشقك الأيسر لمعة بيضاء كمقدار الدينار أو الدرهم، ونحن نحب أن ننظر إلى ذلك، فأوضح لهما ذلك عن شقه الأيسر.
وسألهما من أنتما، فقال سيدنا عمر: أنا عمر بن الخطاب، وهذا علي بن أبي طالب، فانتفض أويس القرني واقفًا، وقال لهما: جزاكما الله عن الإسلام خيراً يا أمير المؤمنين ويا صهر رسول الله، أما أنتما فقد كان لكما شرف الصحبة، وأما أنا فقد حرمت هذا الشرف.
فقال له سيدنا عمر بن الخطاب: كيف تتصور النبي يا أويس؟ قال: أتصوره نورًا يملأ الأفق، فبكى سيدنا عمر شوقاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال سيدنا عمر: يا أويس، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرنا أن نقرئك منه السلام، وأمرنا أن نسألك أن تستغفر لنا، وتدعو لنا فإن رأيت أن تستغفر لنا- يرحمك الله- فقد خبرنا بأنك سيد التابعين، وأنك تشفع يوم القيامة في عدد ربيعة ومضر.
فبكى أويس بكاء شديدا، ثم قال: عسى أن يكون ذلك غيري، فقال علي- رضي الله عنه-: إتا قد تيقنا أنك هو، لا شك في ذلك، فادع الله لنا رحمك الله بدعوة وأنت محسن.
قال أويس: ما أخص بالدعاء أحداً، ولكن أعمم، قال عمر: يا أويس عظني، فقال أويس: يا أمير المؤمنين ، اطلب رحمة الله عند طاعته، واحذر نقمته عند معصيته، ولا تقطع رجاءك منه، ورفع أويس رأسه، وقال:”اللهم إن هذين يذكران أنهما يحباني فيك، وقد رأوني فاغفر لهما وأدخلهما في شفاعة نبيهما محمد صلى الله عليه وآله وسلم”.
فقال سيدنا عمر- رضي الله عنه- ابق مكانك- رحمك الله- حتى أدخل مكة فأتيك بنفقة من عطائي، وفضل كسوة من ثيابي، فإني أراك رث الحال، هذا المكان الميعاد بيني وبينك غدا.
فقال أويس: يا أمير المؤمنين، لا ميعاد بيني وبينك، ولا أعرفك بعد اليوم ولا تعرفني. ما أصنع بالنفقة؟ وما أصنع بالكسوة؟ أما ترى عليَّ إزارًا من صوف ورداً من صوف؟ متى أراني أخلِفهما؟ أما ترى نعليَّ مخصوفتين، متى تُراني أبليهما؟ ومعي أربعة دراهم أخذت من رعايتي متى تُراني آكلها؟، يا أمير المؤمنين: إن بين يدي عقبة لا يقطعها إلا كل مخف مهزول، فأخف- يرحمك الله- يا أبا حفص، إن الدنيا غرارة غدارة، زائلة فانية، فمن أمسى وهمته فيها اليوم مد عنقه إلى غد، ومن مد عنقه إلى غد أعلق قلبه بالجمعة، ومن أعلق قلبه بالجمعة لم ييأس من الشهر، ويوشك أن يطلب السنة، وأجله أقرب إليه من أمله، ومن رفض هذه الدنيا أدرك ما يريد غدأ من مجاورة الجبار، وجرت من تحت منازله الثمار.
فلما سمع عمر- رضي الله عنه- كلامه ضرب بدرته الأرض، ثم نادى بأعلى صوته: ألا ليت عمر لم تلده أمه، ليتها عاقر لم تعالج حملها. ألا من يأخذها بما فيها ولها؟.
فقال أويس: يا أمير المؤمنين! خذ أنت ها هنا حتى آخذ أنا ها هنا. ومضى أويس يسوق الإبل بين يديه، وسيدنا عمر وعلي- رضي الله عنهما- ينظران إليه حتى غاب فلم يروه، واتجه بعدها سيدنا عمر وعلي- رضي الله عنهما- نحو مكة المكرمة.
بعد أن عرف الناس بأمر أويس القرني مع سيدنا عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأخذوا يبحثون عنه، هرب أويس ولم يعد يُعلم عنه شيء، وعاش أويس القرني بين الناس وهم يرمونه بالحجر ويستهزئون به، وكان يجالسهم ويحدثهم وينصحهم ويدعوهم إلى تقوى الله وعمل الصالحات بحاله قبل مقاله، رغم ما يصيبه من أذى ألسنتهم.
وفاته:
عاش “أويس” في “الكوفة” زاهداً عابداً، عُرف بطول السجود، وفي حديث “قتادة” عن “الحسن البصري” عن رسول الله أنه قال: يدخل بشفاعة رجل من أمتي الجنة أكثر من “ربيعة” و”مضر”. ثم قال: ذلك “أويس القرني”، يا “عمر” إن أدركته فأقرئه مني السلام، وقل له يدعو لك».
وفي عهد أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – خرج أويس القرني مع سيدنا علي كرم الله وجهه في موقعة صفين سنة 37 هجريًا، وتمنى الشهادة ودعا الله قائلاً: “اللهم ارزقني شهادة توجب لي الحياة والرزق”، وظل يقاتل بين يدي سيدنا علي بن أبي طالب حتى استشهد، وعندما تفقدوه وجدوا في جسده أكثر من أربعون جرحًا. وصلى عليه أمير المؤمنين الإمام علي ودفنه في مدينة “الرقة” في الشام على أصح الروايات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *