كان زكريا عليه السلام قد بلغ من العمر عتياً فصار شيخاً هرماً وكانت امراته قد صارت ايضاً عجوزاً هرمة مثله ولم يرزقهما الله تعالي بالبنين، وكان زكريا يحمل شريعة النبي موسى عليهما السلام وقد خاف ان تضيع هذه الشريعة من بعده لأن اليهود كانوا قد ابتعدوا عن الدين وتركوا رسالة التوحيد وقد غرهم متاع الدنيا ولهوها فانصرفوا الي الملذات والشهوات والي الفسوق والفجور .. من هنا كانت شدة الخوف عند زكريا عليه السلام علي ألا يتبقى التعاليم السماوية حية بين الناس، فدعا ربه ان يهب له غلاماً طاهر القلب صافي السريرة يكون قادراً علي ان يصون، الدين ويحفظه من الضياع، واستجاب الله تعالي لدعاء نبته زكريا عليه السلام فوهبه علي الكبر ولداً واوصاه بان يسميه يحيى أي الذي تبقي الشريعة حية بوجوده .
وشب يحيى وكبر في احضان النبوة فتربى علي اخلاق ابيه زكريا، واخذ عنه الحلم واتاه الله سبحانه وتعالي من فضله الحكمة مذ كان صغيراً ليكون قادراً علي حمل الرسالة السماوية والاضطلاع باعباء المسئولية الجسيمة، وكان الكتاب الذي احتوي تعاليم موسى عليه السلام التوراه، وقد حمله من بعده كل انبياء بنى إسرائيل حتي وصل الي زكريا عليه السلام، فلما توفاه الله تعالي نزل الوحي علي ابنه يحيى يأمره بان يحمل التوراه وذلك بقوله تعالي : ” يا يحيى خذ الكتاب ” وتسلم يحيى منذ ذلك الوقت حمل الدعوة وهو يبين لبنى إسرائيل احكام الله تعالي وطريقة تطبيقها بما يهدي للتي هي أقوم .
وكان النبي يحيي سلام الله عليه تقياً لا يأتمر إلا بأمر الله، وورعاً لا يترك العبادة ليل نهار وهو يحس في قرارة نفسه بأن الله تعالي يرقبه من عليائه ويحثه علي طاعته بصورة دائمة، مما جعله يقضي اوقاتاً طويلة في العبادة وطلب العلم وهذا ما اتعبه واعياه حتي نحل جسمه ووهن عظمة لشدة الاعياء والتعب .. ولكن هذه المواظبة علي النفقة في الدين وعلي تطبيق احكام الشريعة مكنته من أن يفسر أحكام التوراه وان يقف علي كل اسرارها ليبلغ الناس ما وصل إليه من علم الله سبحانه وحكمته وهكذا عرفه الناس عالماً بأصول الشريعة وفروعها وقادراً علي ان يعطي الاحكام المعقولة كما شهد له بنو اسرائيل، بأنه النبي الذي يجهر بالحق ولا يتهاون في امر من امور العقيدة، ولا يتساهل مع أحد مهما علا شأنه في تطبيق أحكامها، وهو في ذلك كله لا يخاف في الله لومة لائم ولا يخشى إلا من الله خالقة ومدبره .
وكان يحيي عليه السلام في حياته مع الناس رحيماً بالفقراء عطوفاً علي المساكين لا يترك شيئاً يقدر عليه إلا فعله لهم أو مكنهم منه ولم تكن شفقته علي الحيوانات بأقل من شفقته علي الناس فكان يسعى إلي اطعام صغار تلك الحيوانات من قوته وطعامه اليومي واحياناً لا يترك لنفسه شيئاً مما يضطره للأكل من نبات الارض واوراق الشجر .. وعندما كان يقف في الناس خطيباً كان يتأثر لشدة ايمانه بالله تعالي أيما تأثر حتي يبكي ويبكي معه كل الناس الذين يستمعون إليه، وكان موقفه من الحكام ومن اولئك الذين يعبثون بشئون الدين بالباطل موقفاً متشدداً كما فعل مع هيرودوس حاكم فلطسين عندما سمع انه احب ابنه اخية هيروديا وعزم علي الزواج منها بعد ان وافقت هي علي هذا الزواج وجميع اقاربها معها، اذ استنكر النبي يحيي هذا الزواج استنكاراً شديداً واعلن ان زواج هيروديا من عمها هيرودوس باطل ومحرم وهو يخالف الشريعة ولا يرضى به إلا كل زنديق فاجر، اذ لا يجوز في شرع الله ان يتزوج العم من ابنة اخيه .
وشاع خبر استنكار يحيي عليه السلام لذلك الزواج المحرم ووصل نبوه الي رجال الدين وخدام الهيكل بل وراحت الناس في الاسواق والنوادي وفي الساحات والقصور تتداول رأي النبي يحيي عليه السلام حتي تناهي الي مسامع هيروديا فحزنت وغضبت وحقدت عليه لأنها كانت تعرف مكانته بين الناس ومدي تأثيره عليهم ولكنها لشدة دهائها سيطرت علي غضبها وصممت علي ان تنتقم من يحيي عليه السلام فراحت تكيد له في الخفاء وكان أول شئ قامت به ان ذهبت الي عمها الحاكم وهي في ابهي حلة واجمل زينة ودخلت عليه بغنج ودلال وهي علي حالها من الجمال الفاتن والمظهر الخلاب وما إن رآها هيرودوس حتي هب من مجلسه يستقبلها وقد فتن بمرآها ثم ركع علي ركبتيه امامها يقبل يديها ويتغن بجمالها وبحسنها ثم يقول لها : هلمي الي العرش فاجلسي بجانبي حتي انعم برؤيتك انا خادمك الامين فامري ما شئت ولن اخالف لك امراً مهما كان .
وجلست هيروديا صامتة وقد بدا عليها الهم والحزن فضاق صدر هيرودوس لحزنها ثم طار صوابه عندما راحت تبكي باحتيال حتي جعلته يرجوها لتقول له ما يحزنها عندها قالت له : ايرضيك ايها الملك ان تصبر علي ظلم يأتيك او عار يلحق بي وبسببك وانا التي ساكون زوجك لك ؟ ولم يصدق هيرودوس ما يسمع فهو يعلم ان لا احد من الناس يستطيع ان يرفع نظره إليه فكيف يكون هنالك من يتطاول عليه او ينال من حبيبته هيروديا أي سوء ؟ وثار غضبه فصرخ قائلاً : هلمي واخبريني ما عندك قبل ان ادمر كل شئ واقضي علي جميع الناس في هذه المدينة .
ولم تجب هيروديا علي الفور لانها كانت تريد ان تزيد من سورة غضبة ولكنه هو لم يعد يطيق الاحتمال فألح عليها ان تتكلم فقالت له : هل يرضيك يا سيدي ان يتطاول يحيي بن زكريا علي مقامك وان يتهمني بالفسق ؟ وطار صواب هيرودس وفقد كل وعي او ادراك، لقد استبد به الغضب فأمر علي الفور حراسة ان يسرعوا ويأتوه برأس يحيي دون سؤال او جواب وكان ذلك اللعين قد عزم علي ان يقدم الرأس الطاهر هدية لحبيبته الفاجرة حتي ترضى عنه .
واسرع الجنود يلبون اوامر سيدهم وإن هو إلا وقت قصير وعادوا يحملون رأس النبي يحيي عليه السلام ويضعونه امام هيروديا فهدأت عندئذ اعصابها وشفت غليلها بعد ان كادت كيدها .. ذلك ما حل بالنبي يحيي عليه السلام فقد اراد ان يمنع منكراً وان يقضي علي ما يخالف شرع الله تعالي فلا تشيع الفاحشة بين الناس فكانت ردة الفعل من الحاكم الظالم قتله بدون حق .
وقد ظنت هيروديا اللعينة انها بقتل النبي الكريم سوف تنعم بالزواج وانها ستنال بعد موته السعادة وتعتلي سدة الحكم ولكنها لم تعلم بان ما فعلته هي وهيرودوس كان خزياً وعادوا عليهما وعلي بني اسرائيل الي ابد الدهر .
فلقد حلت عليهم لعنة الله، وكتب عليهم الخزي والعار في الدنيا والآخرة بما كانوا يقتلون الانبياء بغير حق وبما كانوا يعتدون .. اما يحيي الذي لم يجعل الله له من قبل سمياً فسلام الله عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حياً .