اشتمل الإسلام على آداب راقية في فن التعامل مع الناس على مختلف مستوياتهم وإكرامهم والاحتفاء بهم مهما كانت الطبقة المادية أو الاجتماعية التي ينتمون إليها، والمتأمل في تشريعات الإسلام يلحظ ما فيها من عناية كبرى بأسلوب المعاملة خصوصا مع تلك الطبقات الدنيا التي غالبا ما تُهضَم حقوقها وتُستغَل حاجتها الملحة لسد حاجياتها الأساسية التي لا تستقر الحياة الإنسانية الكريمة من دون توفرها كالمأكل والملبس والمشرب، وجوانب التأدب والرفق في المعاملة نجدها عامة في تشريعات الإسلام كله إلا أن ما يتعلق منها بالتعامل مع الأجراء وضعاف المجتمع أكثر عمقا وإلحاحا في لسان التشريع .
ثم إن هذه الآداب ليست منحصرة في النصوص الفقهية القانونية التي تَوصَّل إليها الفقهاء من قراءاتهم المتعددة لنصوص الشرع واستنباطاتهم المعمقة من دلالات تلك النصوص وما تحمله بين طياتها من معاني بل إنها لواضحة جلية في التعليمات النبوية المباشرة التي وجهها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أمته من يوم رسالته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد برز هذا واضحا في سيرته صلوات ربي وسلامه عليه وسيرة إخوانه الأنبياء من قبله؛ فقد كانوا – وهم قمة الكمال البشري نسبا وكَرَم مَحْتِد – يواسون الأجراء ويساكنونهم ولا يتميزون عنهم بمأكل ولا مشرب؛ حتى قال قوم نوح لنوح عليه السلام: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111]؛ يقصدون: أهل الصناعات والأعمال اليدوية كما قال المفسرون؛ والصناعة لا تزري بالديانة فالغنى غنى الدين والنسب نسب التقوى .
وبشكل تفصيلي فإن نصوص السنة النبوية المطهرة قد اشتملت على كثير من الأخلاق وكريم الآداب في التعامل مع الأجراء لم تصل إليها أرقى مواثيق حقوق الإنسان حتى يوم الناس هذا ولم تقرها بعد مجتمعات الغرب ولا الشرق رغم ضخامة الإرث الإنساني والتجربة العملية في مجال التطور نحو إنصاف الأجراء والعمال، ومن تلك الآداب ما يلي:
• مساواة الأجراء بأرباب العمل في المأكل والمشرب والمجلس: فقد روى المعرور بن سويد قال: رأيت أبا ذر الغفاري رضي الله عنه وعليه حلة، وعلى غلامه حلة، فسألناه عن ذلك، فقال: إني ساببت رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «أعيرته بأمه»، ثم قال: «إن إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم عليه»، [ البخاري ومسلم )]؛ في هذا الحديث الشريف يوضح لنا النبي صلى الله عليه وسلم قدرا كبير من المفاهيم الإنسانية الراقية في التعامل مع الأجراء.
أولها: استحضار معنى الأخوة الإنسانية في التعامل معهم.
وثانيها: استيعاب معنى الاستخلاف ومعاملة الأجير على نحو ما يحب رب العمل أن يعامل به لو قُدِّر أن كان هو الأجير.
وثالثها: ألا نَتمَيَّز عن الأجير بفارِهٍ من اللباس أو الحالة، بل إن من السنة التواضع له ومشاركته في العمل ومد يد العون له إن احتاج المساعدة في رفع الأثقال أو نحو ذلك.
وقد ورد في سبب رواية أبي ذر لهذا الحديث أن المعرور بن سويد قال: رأيت أبا ذر بالربذة، وعليه برد غليظ ، وعلى غلامه مثله، قال: فقال القوم: يا أبا ذر، لو كنت أخذت الذي على غلامك، فجعلته مع هذا فكانت حلة، وكسوت غلامك ثوبا غيره … فذكر لهم الحديث
وتجربة سلفنا الصالح ثَرَّةٌ غنيةٌ في هذا المجال فقد كان عثمان بن عفان رضي الله عنه يلي وَضوء الليل بنفسه ولا يوقظ أحدا من أهله ليعينه على وضوئه، فقيل له: لو أمرتَ بعض الخدم فكَفَوك، فقال: لا، إن الليل لهم يستريحون فيه، وروى محمد بْن أَبِي حاتم الورّاق – وهو النساخ الذي كان يكتب للإمام البخاري الحديث – قال: كَانَ البخاري يقوم فِي اللَيْلَةٍ الواحدةٍ خمس عشرة مرّة إلى عشرين مرّة، فِي كلّ ذَلِكَ يأخذ القُدّاحة فيُوري نارًا ويُسرج، ثمّ يُخرج أحاديث فيُعلِّم عليها، ثمّ يضع رأسه، وكان لَا يوقظني فِي كلّ ما يقوم، فقلتُ لَهُ: إنّك تحمل عَلى نفسك فِي كلّ هذا ولا تُوقظني! قَالَ: أنتَ شاب ولا أحب أن أفسد عليك نومك.
• ودافعت السنة النبوية عن حقوق المستأجر فنهت عن الغرر في عقود الإجارة؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: « نَهَى عَنْ اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ حَتَّى يُبَيَّنَ لَهُ أَجْرُهُ»، [أخرجه أحمد ] .
• بل لقد توعّد الله تعالى في الحديث القدسي الذي أخرجه أحمد والبخاري وابن ماجه كل من يبخس العامل أو الأجير حقه؛ فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قال الله: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُوفِهِ أَجْرَهُ “.
• واستحب الشارع الحكيم التعجيل بتنجيز أجر العامل له فور انتهائه من عمله؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعْطوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ» [أخرجه ابن ماجه ].
وجِماع الأمر أن السنة النبوية المطهرة – بشِقَّيْها؛ العملي والقولي – قد حوت خصالا جمة تمثل الأدب الراقي في التعامل بين الأجير والمستأجر، وحافظت على الحقوق الإنسانية لكليهما؛ وتتبع تلك الخصال يقصر دونه المجال، وقد لخص جلها النبي صلى الله عليه وسلم في مثل ضربه لنا من الأمم السابقة لأمتنا حوى معاني الوفاء والالتزام وقيم الأدب والفضيلة من جانب المستأجر الذي يرعى حق الله فيما استُؤمن عليه؛ وذلك في خبر الرهط الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت عليهم صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فتوسل كل منهم إلى الله بأرجى عمل عمله حتى جاء الدور على الثالث منهم فقال: “اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا، فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ: أَعْطِنِي حَقِّي، فَأَعْرَضْتُ عَنْهُ، فَتَرَكَهُ وَرَغِبَ عَنْهُ حَتَّى اشْتَرَيْتُ بِهِ بَقَرًا وَرَعَيْتُهَا لَهُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ، فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ، وَلَا تَظْلِمْنِي، وَأَعْطِنِي حَقِّي، فَقُلْتُ: اذْهَبْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ وَرَاعِيهَا فَخُذْهُ فَهُوَ لَكَ، فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ، وَلَا تَسْتَهْزِئْ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ، فَخُذْ تِلْكَ الْبَقَرَ وَرَاعِيهَا، فَأَخَذَهَا وَذَهَبَ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرِجْ لَنَا مَا بَقِيَ، فَفَرَجَهَا اللَّهُ عَنْهُمْ “، [رواه البخاري ].
من كل ما مضى نستنبط أن المعاملة بين الأجير والمستأجر في الإسلام تقوم على أسس الفضيلة والعدل والإنصاف، ورغم أن العقد فيها نفعي يرتبط بالمصلحة التي يتحصل عليها كل طرف منهما باستيفاء حق العقد إلا أن السنة النبوية تربطها بمعاني المروءة وقيم الكرم حتى لا تنخدش نفس الأجير من استعلاء المستأجر عليه أو غمصه حقه ولا يبقى شيء في نفس المستأجر على الأجير من عدم استيفاء عمله الذي به يستحق الحقوق التي رتبها الشارع على عقد الاستئجار.