طرح رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو استراتيجية تصفير المشاكل والخلافات مع جيران تركيا. وبالفعل نجحت تركيا طول العقد الأول من حكم حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان حتى العام 2011، في تصفير خلافات تركيا مع جيرانها: اليونان وأذربيجان والعراق وسورية وإيران وأرمينيا، وهي مشاكل وخلافات مضى عليها عقود وذات جذور تاريخية عميقة.
وعلى الصعيد الداخلي، كانت تركيا في طريقها لتسوية تاريخية مع الأكراد الأتراك، وكانت المفاوضات مع زعيم حزب العدالة الكردستاني عبدالله أوجلان في سجنه، وبواسطة الحزب الديمقراطي جارية على قدم وساق، بل وحدثت تحولات في تعاطي تركيا السلطة مع الأكراد وغيرهم من الأقليات مثل الآذر والعلويين والأرمن، بحيث أضحى لهؤلاء تعبيراتهم السياسية المشروعة من أحزاب ونواب برلمان وصحافة وإعلام ومحطات فضائية بلغاتهم.
كانت تركيا بقيادة حزب إسلامي إصلاحي تقدّم نموذجاً مغرياً بالانتقال أيضاً من الحكم تحت سطوة العسكر -الذين كثيراً ما أجهضوا الحكم المدني وقفزوا إلى السلطة- إلى دولة مدنية، أبعد فيها العسكر عن إدارة السياسة أو التأثير فيها بما يتعدّى دورهم. وقد انعكس ذلك على تعزيز علاقات تركيا مع دول الجوار، التي تمتلك شعوبها امتدادات في تركيا، مثل العرب والأكراد والآذر واليونان والأرمن.
بموازاة ذلك فإن التحول الديمقراطي في تركيا، وتعزيز سلطة وبنية الدولة المدنية، مترافقاً مع استقرار ونمو اقتصادي هائل انتقلت فيه تركيا من بلد مدين بالبلايين، إلى دولة صاعدة دخلت ضمن الدول العشرين، ما جعل المفاوضات لدخولها الاتحاد الأوروبي تتخذ طبيعية جدية، بل وجرى التوصل لاتفاقات امتيازات خاصة لتركيا في علاقتها مع الاتحاد الاوروبي بانتظار قبول عضويتها فيه.
لكن ذلك تغيّر كثيراً بسبب عناصر سلبية بالأساس في عقيدة أردوغان وحزب العدالة والتنمية بشكل عام، وبسبب تحديدات وخيارات صعبة فرضت نفسها على تركيا، وكانت اختياراتها خاطئة، ومن أهم هذه العناصر التحول في عقلية أردوغان من قائد للتحولات الديمقراطية والبعد عن الشوفينية التركية، والاقتناع بمبدأ أساسي للديمقراطية وهو «التناوب على السلطة»، إلى العكس تماماً، حين أظهر أرودغان توجهاً ليس للاحتفاظ بالسلطة فقط بل وتعزيزاً لدوره فيها، فأزاح الرئيس عبدالله غل، الرئيس المتوازن من حزب العدالة والتنمية، ليصعد هو إلى الرئاسة، مع التخطيط لتحويل النظام التركي إلى نظام رئاسي يمتلك فيه الرئيس صلاحيات واسعة جداً. وبانتظار ذلك، عيّن وزير الخارجية السابق أحمد داوود أوغلو القريب منه إلى رئيس للوزراء، وعمد إلى التصرف كحاكم مطلق للبلاد، وليس حكَماً بين السلطات والقوى السياسية كما تقضى ذلك مهمات الرئاسة وروحها.
كما عمد أردوغان لإحياء الإرث العثماني، مصرّاً على تأكيد مشروعية كل ما قامت به الخلافة العثمانية من مظالم، والنظر إلى الدول المحيطة وخصوصاً العربية، كأجْرامٍ تدور في فلك تركيا كما كانت سابقاً بصفتها ولايات عثمانية، وبنى لنفسه أكبر قصر رئاسي في العالم، وخطط لبناء معالم عثمانية مكان حديقة جيزي في تركيا، ما أثار موجةً لا سابق لها من الاحتجاجات.
على صعيد الجوار، بدأ تدهور العلاقات مع تأكيد حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان، الانتماء لحركة الأخوان المسلمين، وتكييف السياسة الخارجية التركية لذلك، ومنها القطيعة مع مصر بعد الإطاحة بحكم الإخوان، ومن ثم دعم الأخوان المسلمين والفصائل التكفيرية المسلحة في العراق وسورية بمن فيهم ما يدعى الدولة الإسلامية (داعش)، حيث أضحت تركيا الحاضنة والمعبر الأكبر للمقاتلين والسلاح ومتطوعات جهاد النكاح إلى سورية والعراق، والتضييق على الأكراد، كما ظهر جلياً في معركة «عين العرب» (كوباني) في مواجهتهم لجيش «داعش» والتكفيريين، حتى تفجر الوضع داخل تركيا ذاتها بعد التفجير الذي حدث في المركز الثقافي لمدينة شمس المقابلة لكوباني، واستهدف شباباً أكراداً متطوعين للخدمة المدنية في كوباني، ما فجّر الغضب الكردي المتراكم خصوصاً مع تعثر الحل النهائي مع الأكراد. وبذلك استؤنفت الحرب التركية ضد خصمها التقليدي (الأكراد).
على صعيد التفاوض مع الاتحاد الأوروبي، فقد تراجع كثيراً إلى الوراء، حيث أن أحد اشتراطاته إجراء تحولات ديمقراطية عميقة لا رجعة عنها في بنية الدولة والنظام السياسي، بحيث يستوعب القوميات الأخرى دون تمييز خصوصاً الأكراد، وضمان حقوق الإنسان وتعزيز البنية المدنية للدولة، في حين أن تركيا تبتعد عن ذلك. كما أن تركيا مازالت تصر على إنكار مسئوليتها التاريخية عن مجزرة الأرمن، وهو موضوع حساس لدى الغربيين. وبالنسبة للعلاقة مع أميركا فهي متذبذبة أيضاً، خصوصاً أن خطوة تركيا في مواجهة الاتحاد السوفياتي قد تراجعت مع تفككه وانتهاء الحرب الباردة، في حين أن تركيا لا تتجاوب بما هو مطلوب أميركياً في مكافحة الإرهاب.
يبدو أن أهم إنجاز حقّقه أرودغان وحزب العدالة، هو إبعاد المؤسسة العسكرية عن التدخل في شئون الدولة وإدارتها من خلف الكواليس، أو مباشرةً عبر الانقلابات العسكرية. كما أنه أعطى مصداقية أكبر للنظام البرلماني، وأجبر الأحزاب التقليدية المنافسة على تجديد وتعديل برامجها بعيداً عن الشوفينية التركية. والأهم هو إفساح المجال أمام الأكراد لتشكيل «حزب الشعوب الديمقراطية»، الذي يمثل اليوم بـ 18 نائباً في البرلمان، كثالث حزب بعد «العدالة والتنمية» و»حزب الشعب» اليميني.
لكن في المقابل، فشل حزب العدالة والتنمية في التحوّل إلى حزب ديمقراطي حقيقي على غرار الأحزاب الديمقراطية المسيحية في الغرب، خصوصاً مع نزعته لإحياء الإرث العثماني.
يبدو أن مشروع أردوغان استنفد دوره القيادي، وعليه أن يتحوّل إلى المعارضة ويعيد النظر في استراتيجيته وعقيدته، ولكن إذا أصرّ أردوغان على المضي في نهجه وتصعيد الحرب في الداخل والمحيط، فإن المنطقة متجهة إلى مزيد من الفوضى والدمار، وتراجع احتمالات تسويات سياسية للأزمة السورية بشكل خاص والأزمات الأخرى بشكل عام، وتبقى «إسرائيل» هي الرابح الأكبر كالعادة، من أزمات المنطقة وتعثر مشاريع السلم والإصلاح والديمقراطية.