تبخرت آمال معظم الليبيين في تحول بلادهم إلى واحة من واحات الديمقراطية ،بعد الاطاحة بنظام العقيد معمر القذافي.
فبدلا من التحكم بمقدرات البلاد الغنية، وتوظيف الاستثمارات لجعل ليبيا قبلة للسياح، وتشجيع الشركات على الاستثمار، اكتست الشواطئ بلون الدماء جراء جرائم “تنظيم داعش” الإرهابي، وأصبحت معبرا لقوارب الموت باتجاه القارة العجوز.
ومع انعدام الأمن وسيطرة فوضى السلاح لاقتسام النفوذ بين الميليشيات المتحاربة توقف انتاج النفط وتصديره أكثر من مرة، وتوقفت عجلة الانتاج في معظم المرافق، وباتت البلاد مهددة بشبح التقسيم بين الشرق والغرب، والساحل والجنوب.
منذ أربع سنوات انطبعت في الذاكرة صورة العقيد القذافي مسجى ليلتقط معه كل ذي غاية صورة تذكارية. الزعيم الذي حكم البلاد طوال 42 عاما غير قادر على الحراك، وبات غاية سهلة بعدما استهدفته طائرات غربية وأوقعته جريحا ليكتمل مشهد سحله وتعذيبه بطقوس قروأوسطية، تبعها إطلاق نار من مسدس أنهى حياة “الأخ القائد” حسب بعض الروايات في الساعة الثانية عشرة وثلاثين دقيقة من يوم العشرين من أكتوبر/ تشرين الثاني.
هذه الصورة تختزل المآل الدرامي لحكم كان زاخرا بالتقلبات، والنظريات التجريبية، وعمل على اضعاف مؤسسات الدولة وألغى الحراك المدني، إلا بما يتوافق مع نظرته. وأدخل القذافي الليبيين في صراع مع كثير من الدول العربية والأجنبية، وانتهى القومي الثائر الذي ألهمته التجربة الناصرية إلى “الكفر” بالعروبة، والتوجه إلى افريقيا ليتوج نفسه ملكا لملوك إفريقيا.
ورغم قسوة حكم القذافي والمرارة من عدم تطور البلاد في عهده رغم امكاناتها الهائلة ، فإن كثيرا من الليبيين الآن يتوق إلى حكم العقيد والأمن والسكينة التي رافقت هذه الحقبة، ويخشون تحول بلدهم إلى السيناريو الصومالي أو العراقي أو الأفغاني. وأنهكت الفوضى الليبيين، وباتت تهدد حياتهم ومستقبلهم، وتشتد الصراعات الجهوية والإيديولوجية والقبلية لتصبح أشد وطأة على الليبيين من القبضة الأمنية للقذافي والحكم الدكتاتوري، ما دفع كثيرين للترحم على النظام السابق لأن البديل، حتى الآن، هو سيطرة الفوضى وانعدام النظام في الوقت الحالي.
ومع اشتداد القتال تدمرت البنى التحتية الأساسية في طرابلس وبنغازي ومعظم مدن الساحل، وبدولة يحكمها برلمانان وحكومتان، وتشتد الصراعات بين بقايا الجيش والميليشيات التي نمت كالعشب بعد المطر في الصحراء، بعضها على أساس ايديولوجي وبعضها على أساس جهوي، كلها تحارب لفرض سيطرتها. والجنوب ليس أفضل حالا فهو مسرح لاشتباكات قبلية من أجل السيطرة على التهريب في الصحراء، وتصفية حسابات قديمة من أيام الحكم البائد أو قبلها.
ويسود شعور في أوساط الليبيين أن الدول الغربية خذلتهم، ولم تلتزم بالوعود المقطوعة لمساعدة الليبيين في إعادة بناء بلادهم، أو حتى وقف تدميرها، والحد من الانتهاكات الخطيرة التي تقوم بها ميليشيات تتسلح من الخارج من دون رقيب. ولم تقم بالجهد المطلوب من أجل دعم حكومة مركزية تستطيع فرض النظام، وتبدأ في تطهير البلد من فوضى السلاح، والشروع في إعادة بناء ما دمرته الحروب المتواصلة منذ منتصف العام 2011.
ومؤكد أن سياسات القذافي الداخلية وطريقة حكمه شكلت تربة خصبة للتوترات الاجتماعية، والاحتجاجات التي انطلقت في فبراير/ شباط 2001، لكن سياساته الخارجية تتحمل الجزء الأكبر لتفسير التدخل العسكري الاجنبي، بدعم واضح من بلدان الخليج، وموقف متواطئ من جامعة الدول العربية، الأمر الذي شكل أول خروج عن مسار الربيع العربي السلمي، وهو ما ساعد على ازدهار مبدأ الحروب بالوكالة على أراض غريبة من أجل مكاسب سياسية، ومنع قطار الربيع العربي من الانتقال إلى أماكن أخرى تعيش ظروفا لا تختلف كثيرا عن ليبيا في زمن القذافي. وبعد أربع سنوات على رحيل القذافي يبقى التحدي الأهم هو المحافظة على بنيان الدولة وطي صفحة الانتقام والتقسيم بين مؤيدين سابقين للقذافي ومعارضين له، وبين القبائل والمناطق الجهوية ، وقبل هذا كله وضع حد لفوضى السلاح، ما يفتح على حلول سياسية من دون هيمنة أو اقصاء.
وواضح أن الأزمة الليبية تتجه نحو مزيد من التصعيد والتعقيد بعد إعلان المبعوث الأممي إلى ليبيا برناردينو ليون الذي يرعى الحوار بين الفرقاء في البلاد، عن تشكيلة حكومة وفاق لاقت انتقادا داخليا واسعا، ما دفع بعض الأطراف في شرق البلاد إلى التلويح بالدعوة إلى تقسيم ليبيا في حال عدم انصافهم وعدم الاستجابة لمطالبهم. ولا يبدو مجلس الأمن قادرا على طرح رؤية لحل سياسي يمكن تنفيذه، فالمجلس اكتفى ببيان من دون “أسنان” يلوح بفرض عقوبات على “أولئك الذين يهددون سلام ليبيا واستقرارها وأمنها ومن يقومون بتهديد الاستكمال الناجح لعملية الانتقال السياسي”. وحتى استكمال عملية الانتقال السياسي وإعادة بناء المؤسسات في ليبيا فإن كثيرين سوف “يترحمون” على نظام القذافي.