العراق الذي غالبا ما يشار إليه باسم “مهد الحضارة”، أصبح اليوم، مقبرة للحضارة. مضى أكثر من 550 يوما على تولي حيدر العبادي منصبه، انه بقي الآن على رأس حطام محترق لبلد كان مزدهرا ذات يوم.. وجاء العبادي بعد نوري المالكي الطائفي المنبوذ شعبيا للغاية. وقدم المالكي العنان للميليشيات الشيعية التي تقودها إيران، باعتبارها وسيلة لفرض سياسة الإبادة الجماعية “القبضة الحديدية” بقسوة لا ترحم من القصف العشوائي العنيف والاعتقالات التعسفية والتعذيب والإعدام الجماعي للمدنيين السنة الأبرياء. الانقسام الطائفي الذي أثاره المالكي فتح الباب لداعش ، الذي سرعان ما كرس مكاسبه عن طريق الاستيلاء على جزء كبير من الأراضي العراقية، بما في ذلك المدن الرئيسية الفلوجة والرمادي وتكريت والموصل ثاني أكبر مدن العراق.
الجيش العراقي الذي دمره الفساد في ظل حكومة المالكي، أثبت أنه غير كفوء ودون جدوى في مواجهة هجمات داعش. عندما تقدمت قوة صغيرة نسبيا من داعش إلى الموصل، وهي مدينة من مليونين ونصف مليون نسمة تحميها حامية عسكرية عراقية واسعة، واصيب القائد العام العراقي بالذعر والجيش هرب ببساطة، وتخلوا عن ترسانة ضخمة من الاسلحة الامريكية الحديثة. داعش لا يزال يسيطر على المدينة. واضطر العبادي في مثل هذه الحالة إلى الاعتماد على الضربات الجوية الأمريكية والمليشيات الشيعية المدعومة من ايران ليستعيد أجزاء من محافظات ديالى وصلاح الدين والانبار، حيث كانت ذات يوم تجمعات سكانية كبيرة وتحولت الى ركام في هذه العملية، وتعرض سكانها السنة إلى حد كبير للقتل أو التشريد.
في الواقع ايران تستخدم ذريعة الحرب على الإرهاب وحرب مريحة ضد داعش، لتعزيز مكانتها في العراق وتعزيز سيطرتها على العبادي، كما فعلت ذلك في عهد المالكي.
إيران تقف بكل حرص وراء التطهير العرقي للسكان السنة وتدمير المساجد والمؤسسات السنية في العراق، وتدفع مزيدا من السنة نحو داعش باعتباره الخيار الأقل سوءا. عمليات القتل الجماعي لأهل السنة في المقدادية في ديالى في الأسابيع الأخيرة من قبل الميليشيات المدعومة من إيران، في ظل الصمت الآمريكي وفشل حكومة العبادي في فرض الرقابة قد خدمت داعش كثيرا.
في مايو عام 2015 استولى داعش على مدينة الرمادي وسط العراق. وكانت مدينة لأكثر من مليون شخص، معظمهم من السنة. في الآونة الأخيرة تم استعادة المدينة على يد الجيش العراقي، بمساعدة الميليشيات الشيعية الموالية لإيران بتمويل وقيادة من فيلق القدس الإيراني – منظمة إرهابية مصنفة-. وفي 10 فبراير2016 تم طرد داعش أخيرا من الضواحي الخارجية لمدينة الرمادي. تسعة أشهر تحت سيطرة داعش كانت مدمرة بما فيه الكفاية للرمادي، ولكن الهجوم النهائي خلال المعركة من أجل استعادة المدينة يكاد يكون قد دمر كل المباني في المدينة. وبقي عدد قليل من النساء والأطفال وكبار السن من الرجال. وتفيد بعض التقديرات إلى أن أعداد السكان الآن أقل من 1000. شنت المليشيات الموالية لإيران حملة إبادة جماعية غير رحيمة ضد السكان السنة وعذبوا وأحرقوا بلاهوادة. فتم قتل الآلاف من المدنيين. اختفى ببساطة الرجال في الرمادي. يقول البعض أنهم محتجزون في سجون سرية، فيما يدعي البعض الآخر أنهم قتلوا.
الهدف القادم للاستعادة هي مدينة الموصل في محافظة نينوى، شمال العراق. وهي ثاني أكبر مدن العراق وموطن لأكثر من مليونين ونصف مليون نسمة. ومنذ يونيو 2014 يسيطر داعش على المدينة. وقد تم وضع قيود صارمة على السكان المحليين ويسمح للتجار الموثوق بهم فقط لمغادرة المدينة والعودة إليها. شهد السكان السنة من الموصل مصير إخوانهم وأخواتهم في الرمادي ويجب الآن أن يتساءلوا ما إذا أريد لهم أن يذبحوا كالخراف خلال المعركة القادمة للمدينة.
ان الهمجية المروعة للميليشيات المدعومة من إيران لا تشجعهم. قد يرى الكثيرون أن الحياة في ظل داعش، على الرغم من أن القسوة، الا أنها أفضل من الموت على يد الميليشيات الموالية لإيران.
هذه هي المعضلة التي يواجهها الغرب الآن. الضربات الجوية الأميركية ساعدت في استعادة مدينة الرمادي، الا أنها سوت معظم مباني المدينة والبنى التحتية بالأرض. الآن بدأت الطائرات الحربية من التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة غارات جوية على أهداف داعش حول الموصل. وذكر جنرال أمريكي في المعركة من أجل مدينة هيو التاريخية خلال الحرب في فيتنام قولا مدهشا: “كان علينا أن ندمر المدينة لانقاذها!” ويبدو أن التاريخ على وشك أن يعيد نفسه في العراق.
أصبح داعش مطية مريحة لدعاة الحرب على الإرهاب. وقد هرعت قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لتوفير غطاء جوي، في حين وفرت الميليشيات الشيعية تحت سيطرة النظام الإيراني “المقاتلين على الأرض”. اذن يمكن للجميع أن ينفخوا في الفخر في المشاركة في المعركة لطرد داعش من العراق. وللأسف، ان مثل هذه الانتصارات يتحقق بثمن رهيب يدفع الجزء الأكبر منه، السكان السنة المضطهدون المعرضون للاعتداء والعنف في العراق. ولسوء الحظ، وبالتوازي مع إطلاق الضربات الجوية، لم تفعل الولايات المتحدة الكثير لتسليح وتدريب أهل السنة في المناطق المحتلة من قبل داعش. بينما هذه هي القوى التي يمكن أن تكون ركيزة قوية على الأرض في المستقبل. عدد السنة المدربين حوالي 5000، حيث يشكل 5٪ فقط من القوة العسكرية اللازمة؛ و البقية تم تعبئته من قبل الميليشيات الهمجية المجرمة الموالية لإيران ، التي تتبع أوامر طهران.
وعلى الرغم من التحذيرات المتكررة ، وقف الغرب جانبا وسمح لنوري المالكي بالبقاء في منصبه لمدة 8 سنوات كارثية. وأصبح دمية في يد النظام الإيراني الفاشي ونفذ أوامره بفتح الطريق المباشر للقوات الإيرانية والمعدات لتتجه إلى سوريا لدعم نظام بشار الأسد الدموي. كما أصبح لصا محترفا، ليسرق بشكل ممنهج ومنظم الثروة النفطية للشعب العراقي.
وقالت هيئة النزاهة للبرلمان العراقي العام الماضي ان المالكي سرق 500 مليار دولار خلال فترة ولايته بين عامي 2006 و 2014.. ويقول تقرير النزاهة ان قرابة نصف عوائد الحكومة العراقية سرقت في عهد المالكي لثمان سنوات وكان هذا فساد على نطاق واسع. العراق يعتبر الآن باسم البلد الأكثر فسادا في العالم العربي، وفقا لمنظمة الشفافية الدولية.
وجرت احتجاجات واسعة شارك فيها عشرات الالاف من العراقيين في بغداد والبصرة وغيرها من المدن الكبرى. كان التركيز الرئيسي للاحتجاجات على الفساد الجاري من قبل المسؤولين الحكوميين ووحشية الإبادة الجماعية للميليشيات المدعومة من إيران وفشل حكومة العبادي لمعالجة الوضع بشكل فعال.
الكثير من العراقيين يتساءلون لماذا لم يأمر رئيس الوزراء حيدر العبادي و بعد أكثر من 550 يوما في منصبه، باعتقال سلفه نوري المالكي الذي ما زال يحافظ على قوة هائلة ونفوذ في العراق. العبادي أقال المالكي من منصب نائب الرئيس في أغسطس 2015 كجزء من حزمة الإصلاح على نطاق أوسع. ولكن لماذا لم يتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية وفساد الارتشاء؟ على العكس من ذلك، انه مازال يمول جيشا خاصا لشن هجمات قاتلة على المدنيين السنة العزل. انه وصمة عار وجريمة ضد أي محاولة للإصلاح و هو علامة ضعف لحيدر العبادي.
كما وعلى نحو مماثل، فإن العديد من العراقيين يطالبون بإعادة نائب الرئيس العراقي السابق طارق الهاشمي وشخصيات سنية أخرى بارزة ممن تم اقصائهم من منصبهم من قبل المالكي في عملية اقصاء وتطهير مستوحاة من ايران ضد السنة.
ولكن ليس هذا هو المجال الوحيد الذي تغيب فيه رغبة العبادي في القيادة. بل هناك مازال الآلاف من الناس يعانون في شبكة السجون السرية في العراق، بما في ذلك عدة مئات من النساء. معظم السجناء هم من السنة ومعظمهم اعتقلوا بتهم ملفقة تتعلق بالإرهاب. واجه قليل منهم شكلا سريعا للاستماع قضائيا. الاعترافات تحت التعذيب وانتهاك حقوق الانسان أمر مألوف في العراق وينفذ الإعدام في هذا البلد الآن أكثر من أي بلد آخر في العالم باستثناء الصين وإيران.
وكان أمام العبادي فرصة واضحة لعرض المبادئ الإنسانية له ويظهر للعالم أنه يمكن أن يعمل دون سيطرة طهران. كان يمكن له أن يوفر الحماية الكاملة لـ2000 لاجئ إيراني محتجز في مخيم ليبرتي قرب بغداد. كان يمكن له أن يتعاون مع الجهود الغربية لنقل هؤلاء الناس جوا الى دول آمنة. وبدلا من ذلك، ولكون طهران ترغب في إبادة هؤلاء المدنيين العزل الذين تعتبرهم المعارضة الرئيسية لنظامها الفاشي، لم يحرك العبادي ساكنا لتحسين الأمن وتسريع عملية إعادة التوطين. انه لم يسمح للسكان لبيع ممتلكاتهم بحيث أجبروا على ترك تلك الممتلكات في أشرف، حيث بات الآن قاعدة عسكرية في خدمة الحكومة العراقية. كما أنه لم يقدم تعويضات لسكان أشرف عن الممتلكات التي نهبت منهم، وتقدر بقيمة أكثر من 550 مليون دولار.
وفي مخيم ليبرتي تفرض حالة دائمة من الحصار الشديد من الحكومة العراقية. ويشمل هذا الحصار حجزا كاملا للسكان في ليبرتي في مساحة صغيرة معرضة لهجمات صاروخية متكررة، وحصار متفرق على الوقود والغذاء والمعدات الضرورية، ورفض مستمر من قبل السلطات العراقية لتأمين الجدران الكونكريتية داخل المخيم، فضلا عن الحصار الطبي الذي أودى بحياة العديد من السكان والتعذيب النفسي المستمر من خلال استقدام واستقبال أفراد وهميين للعوائل من إيران، ممن سمح لهم لاختراق محيط الأمن في المخيم ومضايقة السكان وتهديدهم عبر مكبرات الصوت.
ويتم تجاهل هذه الانتهاكات المتلاحقة لحقوق الإنسان الأساسية للسكان المدنيين في مخيم ليبرتي من قبل الأمم المتحدة. ان فريق الإدارة المسؤولة عن المخيم يتكون من أفراد هم أنفسهم لعبوا أدوارا رئيسية في المجازر ضد هؤلاء اللاجئين في مخيم أشرف. بالإضافة إلى ذلك، حتى نهاية ولاية المالكي كان ليبرتي هدفا للعديد من الهجمات الصاروخية.
وقد استمر ذلك في عهد العبادي مع أحدث هجوم من نوعه في 29 اكتوبر عام 2015، بـ 80 صاروخا سقط على المخيم مما أسفر عن مقتل 24 من السكان.
يجب أن تطالب الأمم المتحدة تحقيقا للبحث وإلقاء القبض على الجناة الذين يقفون وراء الهجوم الصاروخي الأخير. العاملين في المجال الإنساني الذين دربتهم الأمم المتحدة، يجب أن يحلوا محل اولئك الموجودين حاليا في إدارة المخيم. ويجب رفع الحصار عن السكان ويجب ألا يحرموا من الحقوق التي كفلها لهم القانون الدولي والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وخاصة من الناحية الطبية. ومن أجل حماية وسلامة السكان لا بد من الاعتراف بليبرتي كمخيم للاجئين ويجب رفع علم المفوضية فوق هذا الموقع إلى أن يتم نقل السكان إلى بلدان ثالثة. ونظرا الى وجود القوات الأميركية وقوات التحالف قرب المخيم و التزامات الولايات المتحدة تجاه سكان ليبرتي، فيجب توفير الحماية الجوية للمخيم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا يمكن أن يتحقق دون صعوبة كبيرة.
وقد واجه خامنئي، المرشد الأعلى للنظام الإيراني في جهوده لتأمين سلاح نووي، فشلا مذلا. وكان اقتصاد إيران يئن تحت وطأة العقوبات الدولية وانهيار أسعار النفط، وأجبر على التوصل الى اتفاق مع الغرب. وفي محاولة لدعم نظامه المحاصر، خامنئي يحاول توسيع النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط. وتسببت جهوده لدعم نظام بشار الأسد الآيل للسقوط في استمرار الحرب الأهلية في سوريا على مدى السنوات الخمس الماضية، وخلق بيئة مثالية لداعش للاستغلال والتوسع. خامنئي، في المقابل، يستخدم داعش كحجة له لتوفير المال والرجال والمعدات لدعم حملة الأرض المحروقة من قبل الميليشيات المدعومة من إيران في العراق. وقد ساهم الصمت الغربي في هذه المذبحة ببساطة إلى الحرب الطائفية المتصاعدة التي تهدد بتمزيق العراق.
المنظمات الميليشياوية الأكثر فتكا وتابعة لإيران هي فيلق بدر وعصائب أهل الحق وحزب الله العراقي (كتائب حزب الله). هذه الميليشيات تقمع وتذبح السنة والشيعة الذين يعارضون أي تدخل من النظام الايراني في العراق. وحاليا، قائد ميليشيات بدر هو هادي العامري، وقائد كتائب حزب الله أبو مهدي المهندس، وقائد عصائب أهل الحق هو قيس الخزعلي.
وتقع جميع الميليشيات الثلاث تحت قيادة فيلق القدس الإيراني الإرهابي.
وبالنظر إلى حقيقة أن أبرز الزعماء الدينيين والشخصيات السياسية السنية والشيعية دعوا في الأسابيع الأخيرة الى نزع أسلحة الميليشيات التابعة للنظام الإيراني، لابد أن تبدي الأمم المتحدة الحزم في مواجهة هؤلاء الإرهابيين وإنقاذ العراق من الانزلاق إلى المعضلة التي ستؤدي حتما إلى زواله. يجب على الولايات المتحدة والامم المتحدة ودول المنطقة تصنيف الميليشيات التابعة لإيران، وخصوصا بدر، والعصائب وكتائب حزب الله مع قادتهم، بصفتهم إرهابيين وعلى حكومة العراق نزع أسلحتهم وتقديم قادتهم إلى العدالة.
وتكلم العبادي خلال الأشهر الـ 6 الماضية عن إصلاحات وتغيير حكومته ولكن في الواقع لم يحدث التغيير الا القليل. انه يحتاج الى السيطرة. انه يحتاج الى اجراء انتخابات جديدة تحت إشراف الأمم المتحدة يشارك فيها جميع العراقيين حتى يتمكن من تشكيل حكومة وحدة وطنية تشمل السنة وممثليهم الحقيقيين وجميع المجموعات العرقية الأخرى في العراق. يجب أن يتخذ خطوة لتشكيل مجتمع شامل يضم أهل السنة وجميع المجموعات العرقية في أجهزة الشرطة والجيش والحكومة.
من الضروري تطهير القضاء من الفساد وإصلاح المحاكم. كما من الضروري إغلاق السجون السرية وإطلاق سراح السجناء السياسيين. كما من الضروري وضع حد للاستخدام العشوائي من التعذيب وعقوبة الإعدام ووضع حد للفساد والبدء في استخدام عائدات النفط العراقي لصالح الشعب.
ولكن الشيء الذي يكتسب أهمية عاجلة وأساسية، هو اعلان العبادي حظر الميليشيات الموالية لإيران ومنع ايران من مزيد من التدخل في العراق. ثم يجب رد الاعتبار لشخصيات مثل الدكتور طارق الهاشمي الذين هم في المنفى بسبب سياسات المالكي وإعادتهم إلى الحياة السياسية. بالتأكيد ان هذه الخطوات تلقى دعما من العراقيين والعالم العربي وأوروبا وقد يمنع العراق من الانهيار النهائي.