شغلت سويسرا العالم طويلا بساعاتها الفاخرة وسريتها المصرفية المعروفة ونوعية الحياة الفاخرة فيها . إلا أنها تشغل العالم هذه المرة لسبب مختلف يتصل بمقترح غير مسبوق في عصرنا الحديث . ويقضي المقترح بمنح دخل مجاني ثابت لكل مواطن سويسري بغض النظر عن أي دخل آخر له .
وبعد أن شغل هذا الاقتراح العالم ،قبل السويسريين ، طوال الأسابيع الماضية عاد الجميع لينشغلوا بالمفاجأة الثانية ،والمتمثلة برفض 78 % من الناخبين السويسريين لمقترح منحهم المال دون مقابل.
القصة من البداية
فقد وقفت قبل ايام أمام مقر الحكومة السويسرية في العاصمة بيرن شاحنة محملة بعشرات الصناديق التي احتوت على ما مجموعه 126 ألف توقيع داعم للمبادرة الشعبية، التي تسعى إلى تخصيص دخل أساس غير مشروط لجميع مَن يقطن في البلاد .
وبحسب الدستور السويسري، يحق لأي مواطن التقدم بمقترح أو مبادرة شعبية يتم طرحها للتصويت العام لإقرار قانون جديد أو تعديل قانون قائم، بشرط أن يجمع 100 ألف توقيع تؤيِّد مبادرته. ولا تأخذ المبادرة قوة القانون إلا إذا نالت موافقة أكثر مِن نصف المصوتين في البلاد وأكثر مِن نصف عدد المقاطعات السويسرية الـ 26.
وتقترح المبادرة التي رفضها السويسريون منح 2500 فرنك سويسري (2800 دولار) شهريا لكل مواطن، ولكل مقيم في البلاد بصورة مشروعة، سواء أكان يعمل أم لا، فقيراً أم غنيَّاً، بصحة جيدة أو مريضا، يعيش وحده أو مع أسرته. ومنح 625 فرنكا (694 دولاراً) في الشهر لمن هم دون 18 عاماً.
وتضمن المبادرة دخلا سنوياً عالياً للأفراد، حيث إن أسرة تتكون من شخصين بالغين وطفلين، على سبيل المثال،تتلقى 75 ألف فرنك (83,3 ألف دولار) سنوياً مِن دون قيد أو شرط .هذا بخلاف ما يحصل عليه البالغان في الأسرة من عملهما الأصلي. والمبلغ الإضافي كاف للعيش العادي دون الاضطرار إلى العمل.
السويسريون يرفضون المال الزائد
ولأن سويسرا هي الدولة الأولى التي تجري تصويتا على فكرة منح المواطنين مبالغ من المال دون عمل ،توجهت انظار العالم اجمع اليها لمراقبة ما سينتهي اليه التصويت .حيث واجه المقترح منذ الوهلة الاولى معارضة جميع التيارات السياسية في البلاد والبرلمان. .
وبالرغم من أنه كان بين الموقعين على المقترح أوزفالد سيك، الوزير السابق في الحكومة السويسرية ، إلا أنه لم يلق دعما من أي من السياسيين السويسريين، ولم يخرج ولو حزب سياسي واحد ببيان لتأييده .
وقال معارضو المقترح قبل التصويت أنه سيفصل بين العمل الذي ينجزه المواطن وما يحصل عليه من مال. وهو الامر الذي من شأنه أن يلحق أضرارا بالمجتمع، لما سيؤدي اليه من تقاعس عن العمل طالما أن المال يأتي مجانا على مدار الاشهر والاعوام .
إلا أن اعضاء الحملة التي تبنت مقترح “الدخل الأساسي في سويسرا”، رفضوا ذلك قائلين إنه لن يكون مالا مقابل لا شيء. معللين ذلك بأن “50 بالمئة من الأعمال في سويسرا تتم بلا مقابل مالي. منها أعمال رعاية وأعمال في المنزل، وغيرها من الأعمال التي تشتغل بها مجتمعات مختلفة. لذلك -يقولون – ستلقى تلك الأعمال تقديرا إذا ما تحدد لكل مواطن دخل أساس.”
العالم يرحل الى سويسرا
وفي سياق الجدل حول المقترح والنتائج المترتبة عليه فيما لوتم إقراره خرج من يقول ان المقترح -المبادرة – سيقلب النظام الاجتماعي السويسري رأساً على عقب. فبدلاً مِن الشبكة الاجتماعية التقليدية الواسعة في البلاد، كصندوق مدفوعات المتعطلين عن العمل، وصندوق المعوقين، وصندوق المتقاعدين، ومكاتب المعونات الاجتماعية، وصناديق قروض الإسكان، وغيرها، ستدفع الحكومة لكل شخص راتبا ثابتا سيؤهله للعيش به فوق ما يحصل عليه من عمله .ولن يحتاج بعد ذلك للتوجه إلى الصناديق الاجتماعية في حالة عطله أو إصابته بعائق يمنعه عن العمل جزئياً أو كلياً.
وفي إطار السجال السويسري الذي سبق التصويت القت لوزي ستام، عضوة البرلمان اليمينية عن حزب الشعب السويسري ضوء معارضتها على اسباب اخرى ، قائلة ” إذا كانت سويسرا جزيرة، فسوف تكون الإجابة نعم. لكن مع الحدود المفتوحة، هناك استحالة لقبول هذا المقترح، خاصة أن مستوى المعيشة في سويسرا مرتفع.”وأضافت أنه “حال منح كل سويسري مبلغا من المال، سيكون هناك مليارات الناس الذي يسعون إلى الانتقال إلى سويسرا.”
العدوى السويسرية
وبالرغم من أن تصويت السويسريين برفض المال المجاني لكل مواطن قد منع مثل هذه الافكار من رؤية النور الا ان هذه المفاجآت السوسيرية وجدت طريقها عبر الحدود حيث بدات دول أخرى مثل فنلندا بدراسة الفكرة نفسها، إذ تفكر الحكومة في تجريب فكرة صرف دخل أساس لحوالي 8000 مواطن من محدودي الدخل.وفي مدينة أوتريخت الهولندية، يطور مجلس المدينة مشروعا تجريبيا لصرف دخل أساس يبدأ العمل به في يناير/ كانون الثاني 2017.
سابقة إسلامية عربية
وبالعودة الى المصادر التاريخية العربية الاسلامية يتضح ان هذه العقيدة الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية كان أول مَن ابتكرها، وطبَّقها في مجمل التاريخ الإنساني على الإطلاق هو الخليفة الراشد أبو بكر الصديق (رضي الله عنه). ففي العام 10 هـ، أي قبل 1425 عاماً من اليوم، وضع الخليفة أبو بكر معياراً لحد أدنى مضمون من الدخل وذلك بمنحه كل رجل، وامرأة، وطفل، 10 دراهم في السنة.
كما ان الخلفاء الراشدين الثلاثة، عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والصحابة والتابعون (رضي الله عنهم) مضوا جميعاً على سيرة سلفهم. ومضى معيار ابي بكر الصدِّيق بمنح الدراهم العشرة سنوياً عقوداً طويلة من السنين، حتى تمت زيادتها خلال الدولة الأموية إلى 20 درهما سنوياً.
وبقي نظام “أبي بكر” في توزيع دخل ثابت للناس قائماً حتى ألغي في عهد الخلفية الأموي، عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه العام 82 هجرية (717 ميلادية) ،عندما لم تتمكن إدارة الدولة الأموية التي عُرِفت بتقدمها ورقيها من العثور على من هو في حاجة للزكاة في مكة المكرمة والمدينة المنورة وباقي أمصار الدولة.