أثار قرار تعيين السفير الأمريكى السابق فى القاهرة فرانسيس ريتشارد دونى رئيسا للجامعة الأمريكية الكثير من الارتياب فى المهمة المنوطة إليه، حيث ذكرت حيثيات قرار تعيينه أنه الوحيد القادر على قيادة الجامعة فى تحقيق مهامها السياسية والاقتصادية والاجتماعية المهمة والجديدة التى من المنتظر أن تحققها الجامعة خلال الفترة القادمة فى مصر والمنطقة.
كما أكد ريتشاردونى فى كلمته التى رد عليها فى قرار تعيينه رئيسا للجامعة فى القاهرة أنه «يؤمن بالدور الذى يلعبه التعليم الدولى فى تغيير المجتمعات».
وذكر ريتشارد بارلت رئيس مجلس أمناء الجامعة الأمريكية على مستوى العالم ان المناصب الدبلوماسية التى شغلها ريتشاردونى كسفير فى عدة دول عربية وشرق أوسطية، مع النظر أن ريتشاردونى كما له أدوار كمراقب مدنى للقوات الدولية لحفظ السلام فى سيناء، كما تقلد مناصب فى أجهزة المخابرات الأمريكية ورئيس وحدة قوة مكافحة الإرهاب فى الإدارة الأمريكية بعد أحداث 11 سبتمبر، وتلاها أدوار فى التمهيد للمسرح السياسى والشعبلى فى العراق لإسقاط نظام صدام حسين فى الفترة من 1999 حتى 2001 فى ظل وزارة مادلين أولربايت التى بدأت تحقيق مسلسل فوضى المنطقة والقضاء على أعتى الأنظمة العربية.
ومن ثم فإن ريتشارد بارلت رئيس مجلس أمناء الجامعة الأمريكية يرى أن مثل هذه المؤهلات لفرانسيس ريتشاردونى تؤهله لشغل هذا المنصب إنطلاقا من الدور الذى تلعبه مصر فى المنطقة.
وإذا نظرنا لهذه الحيثيات فسنجدها تنطبق على منصب دبلوماسى مؤثر وخطير فى مصر والمنطقة بأكملها، خاصة فى ظل حالة الاضطراب الواضحة والمحيطة بأمننا القومى الأن، وليس منصباً اكاديمياً فى جامعة حتى وإن كانت دولية فهى على أرض مصرية تحت أى حال، كما ان الأدوار التى ذكرتها حيثيات قرار تعيين ريتشاردونى تنذر بالدور الخطير والمثير لكثير من التساؤلات حول طبيعة العمل والدور الحقيقى الذى ستقوم به الجامعة الأمريكية فى القاهرة خلال الفترة القادمة.
كما ذكرت حيثيات قرار التعيين أن الجامعة الأمريكية سيكون لها دور خلال خطتها المتطورة والممتدة حتى عام 2019، والذى سيساهم فى التغيير السياسى والإجتماعى والاقتصادى فى مصر!.
وهو الأمر الذى يثير تساؤلا حول دور مؤسسة تعليمية وبحثية أكاديمية على أرض غريبة وممولة نشاطاتها من الولايات المتحدة مباشرة، هل لها الحق فى إحداث هذا التغيير أم انه نوع من اختراق السيادة والرقابة المصرية على أراضيها؟.
وهو ما يعتبر دورا مخالفا للدور الحقيقى الذى أنشأت من أجله الجامعة الأمريكية منذ ما يقرب من 100 عام وهو دور تنويرى كان يرعى فى الأصل أبناء الجاليات الأجنبية ، كما أننا لم نسمع هذه الرسالة من قبل الجامعات الأجنبية الأخرى وهى الألمانية أو البريطانية أو الفرنسية.
كما أن السيد فرانسيس ريتشاردونى كان مدرس فى إحدى المدارس الإيرانية فقط فى طهران فى عام 1976، وليس أستاذا جامعيا، ولم يحصل على أية دراسات عليا تم ذكرها حتى من خلال منحة «فولبرايت» الدراسية فى إيطاليا، هى فقط أهلته للتدريس، فضلا عن أنه لم يحصل بالطبع على درجة الأستاذية الجامعية والتى تعتبر شرطا أساسيا طبقا لقانون الجامعات فى مصر طالما أن هذه الجامعة على أرض مصرية، لتولى منصب رئيس جامعة، وإلا هل الجامعة الأمريكية كيانا استثنائيا مستقل؟.
كما إذا نظرنا لجدول الندوات والحلقات النقاشية التى تستضيفه الجامعة الأمريكية الأن فى تلك الفترة الحرجة فى مصر، فسنجد انهم مهتمون بمناقشة قضايا المجتمع المدنى فى مصر والدول العربية، وعلى الجانب الأخر كان نشاط منظمة «UNDP» خلال الفترة التى كان فيها ريتشاردونى سفيرا لبلاده فى مصر ، فسنجدها من أنشط الفترات من 2005 حتى 2008 التى شهدت نشاطا موسعا وعلو أصوات الحقوقيين ومنظمات المجتمع المدنى، والتى تكللت بعقد أكثر من مؤتمر بمعدل كل أسبوعين تقريبا، فى أفخم فنادق القاهرة على نفقة هذه المنظمة الدولية برعاية السفارة الأمريكية، وكانت هذه المؤتمرات تمثل بوقا حنجريا لهؤلاء الذين يدعون أنفسهم «حقوقيين» حتى ساهموا بقوة فى إسقاط ليس النظام السياسى فقط بل مصر كلها فى 25 يناير.
ووصل حد هذه الاختراقات المجتمعية عقد مؤتمر ضخم فى شهر ديسمبر 2007 بعنوان «الإعلان المصرى لحقوق المواطنة»، ووجهت الدعوة لأقباط المهجر والبهائيين وأقباط مصر فى الداخل وممثلين للحكومة من الوزارات السيادية وكل ممثلى الأقليات الدينية المبتدعة فى مصر مثل القرآنيين وغيرهم من أصحاب دعاوى إهدار حقوق الأقليات فى مصر، بما فيهم ممثلين للمرأة من المجلس القومى للمرأة والمجلس القومى لحقوق الإنسان، ، كما وجهت الدعوة لكل معارضى النظام حتى يتم زيادة حدة الخلاف أما مرأى ومسمع الفضائيات المصرية والإعلام الأجنبى فى ذلك الوقت، وبالفعل تم تصعيد الخلافات بين كل هذه الطوائف أثناء المؤتمر، وصل إلى حد التشابك بالأيدى ورصدت «الوفد» هذا الخلاف فى صفحتها الأولى.
كما ظهرت بعد ذلك دعوة نفس المنظمة «UNDP» لعقد مؤتمر موسع فى جامعة الدول العربية لبحث مشروع قانون منظمات المجتمع المدنى والجمعيات الأهلية المقدم من هذه المنظمات إلى الحكومة، وذلك فى حضور من يسمون أنفسهم «حقوقيين» من كل حدب وصوب فى أنحاء مصر، وصرح المستشار السياسى والإعلامى للمفوضية الأوروبية فى القاهرة فى ديسمبر 2008 لـ «الوفد عن قضية تمويل المنظمات المدنية فى مصر من الخارج، بأن الاتحاد الأوروبى يمول المنظمات بما يقدر بمليون يورو تحت سمع وبصر الحكومة المصرية أولا ،قبل تلقى أية منظمة يورو واحداً أى أنه تحت الرقابة المباشرة فى حالة تلقى مساعدات من اوروبا.
إلا أن الأيام والسنين الماضية كشفت الدور الخفى والمريب لرعاية الكيانات الأمريكية فى مصر لهذه المنظمات بما فيها جماعة الإخوان الإرهابية، فعلى سبيل المثال حكم على الدكتور سعد الدين إبراهيم بسبع سنين من ضمن حيثيات الحكم تلقى مركزه البحثى «ابن خلدون» مبالغ مالية خفية فى شكل تمويل نشاطات المركز، كما ذاعت قضية تمويل المنظمات المدنية فى مصر من الخارج وتم الحكم على رؤساء هذه المراكز المشكوك فى أهدافها من المصريين، كما تم غلق وتهريب رؤساء المراكز الأمريكية فى القاهرة فى شكل تقديم منح للمصريين للدراسة فى الخارج من بينها أحد المراكز فى الزمالك.
وبالرجوع إلى الدور الذى تلعبه المنظمات التابعة للأمم المتحدة أمثال «USAID» برعاية السفارات الأمريكية فى مصر و دول شمال إفريقيا والقارة جميعا فسنجد أنه يتم رصد ما يقرب من 830 مليون دولار سنويا لمثل هذه المنظمات فى فروعها فى مصر والشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهى عبارة عن إنفاق على النشاطات متعددة الأوجه فيما يسمى لتأهيل الأنظمة السياسية فى هذه البلاد للانتقال إلى مرحلة تسود فيها اليمقراطية بكل أشكالها فى هذه الأنظمة، والتى نبع من خلالها إسقاط الأنظمة التى لا تستجيب إذا لزم الأمر كما حدث فى العراق أولا على يد فرانسيس ريشاردونى من 1999 ل 2001، أى قبل الغزو الأمريكى وسقوط بغداد مباشرة، ثم فى تونس وليبيا وحاولوا فى مصر فى عهد مبارك مصر و سوريا مستمرين حتى الآن إلى أن يكتب لها السقوط.
وتم ابتداع برنامج « دمقرطة الأنظمة» فى عهد مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية منذ 1998 أى فى نفس التوقيت الذى تولى فيه فرانسيس ريتشاردونى فى العراق ونجح فى إسقاط نظام صدام حسين، وكانت لها جملتها الشهيرة « إن الديمقراطية لم تعد الحل الأصح بل هى هى الحل الأذكى».
كان هذا المشهد قبل ثورة 25 يناير متزامنا مع الكثير من الوقفات الاحتجاجية والاعتصامات المطالبة بحقوقها، وهو كله مسرح مثير ومهدد للسلام الاجتماعى فى البلاد ومهد لنشوب ثورة 25 يناير، كما كان عملا دؤوباً ومتواصلاً من كل الأطراف الداخلية والخارجية لخروج الثورة بالشكل الذى عايشناه ثم تداعياته مع الإخوان بعد ذلك.
وإذا نظرنا للمشهد الحالى فسنجده مشابها للمؤامرة التى تحاق بمصر ولم تتوقف منذ ذلك الحين حتى الآن، عودة لنفس الفاعلين الحقوقيين المحكوم عليهم فى قضية التمويل الأجنبى يناشدون رئيس المفوضية السامية لحقوق الإنسان فى الأمم المتحدة للإفراج عنهم بدعوة انتهاك مصر للحقوق المدنية، ثم عودة للحديث عن قانون الجمعيات ومنظمات المجتمع المدنى مرة أخرى، والحملة الشرسة التى يشنها البرلمان الأوروبى على مصر بدعوى إنتهاك حقوق الإنسان، وتجاوزات رجال الأمن، متزامنا مع عودة الحديث للحقوقى الدكتور سعد الدين إبراهيم للمصالحة مع الإخوان ، مع دعوة حمدين صباحى للحكم المدنى وتكاتف القوى المدنية فى وجه النظام الحالى، مع تعدد الوقفات الاحتجاجية واعتصامات موظفى مختلف القطاعات مرة أخرى مثل الاتصالات والنقل وأصحاب المعاشات وغيرهم.