يثار اليوم جدلاً واسعاً حول اتجاهات السياسة الخارجية الامريكية، وتحولاتها المحتملة، وما اذا كانت ستشكل منطلقاً لمرحلة جديدة يعاد فيها النظر بكل السياسات السابقة حيال المنطقة العربية، والتي استندت على “استراتيجية اوباما” على عدد من المباديء، من بينها سياسات التدخل متعدد الأطراف، والتشارك في التكلفة، والقيادة من الخلف، والإحجام عن التدخل في مناطق الصراعات الداخلية.
وما بدا واضحاً ان الرئيس ترامب عاقد العزم على تفكيك هذه الاستراتيجية، التي كان من بين احد مظاهرها الانسحاب السريع من العراق، ليترك البلد عرضة للتجاذب السياسي والامني بين الطوائف المذهبية والاحزاب السياسية، وفاتحاً الباب امام ثغرات أمنية عميقة، وجعلته نهباً وملاذاً للجماعات المتطرفة والميليشيات الطائفية.
أحد أهم جوانب الجدل الذي رافق تولي الرئيس ترامب الادارة الامريكية هو ذاك المعنيّ بخلفيته العملية كرجل اعمال وحسابات المصلحة القومية الامريكية، وهو جدل أحيا استقطابا بين من يرى ان الرئيس سوف يقدم على سياسات اكثر اندفاعاً وجرأة من سابقه الذي تأطرت حركته السياسية بالتردد، وبين من يعتقد ان قراراته لن ترقى إلى تصريحات الحملة الانتخابية.
وبدت جملة التصريحات التي اطلقها الرئيس ترامب خلال حملته الانتخابية حول العراق مربكة، فمن ناحية، كان ينتقد غزو العراق الذي قادته الولايات المتحدة في 2003، ويدفع باتجاه نهجٍ أكثر قوة لمحاربة “داعش”، لكنه أظهر تجاهلاً لسيادة العراق من خلال دعواته لأخذ نفط البلاد لتعويض ما انفقته الولايات المتحدة الامريكية على الغزو .
ويدلل ما قاله ترامب لرئيس الوزراء العراقي خلال لقاء جمعهم في البيت الابيض في 20 مارس/آذار الماضي، على إدراك لتبعات التسرع في الانسحاب من العراق، حيث الظروف الامنية والاقتصادية والسياسية بالغة الصعوبة، فضلا عن تعثر تطبيق اتفاقية الإطار الإستراتيجي الموقعة بين البلدين عام 2008 مؤكداً بقوله “لم يكن علينا أن نخوض تلك الحرب، لكن بالتأكيد ما كان علينا أن ننسحب من العراق. ما كان علينا أبداً أن ننسحب”.
وما يقلق الرئيس ترامب في العراق جاء في تغريدة له على تويتر انتقد فيها التدخل الإيراني في الشأن العراقي، وقال إن إيران تتوسع أكثر فأكثر هناك منذ مدة طويلة. ولعلها مؤشر لما ستنتهجه الادارة الامريكية في المرحلة المقبلة.
وبالرغم مما تقدم، يكشف الوضع المعقد في العراق عن صعوبات جمة لجهة لجم التمدد الإيراني، فليس من المتوقع ان تقبل طهران بتقليص نفوذها السياسي والامني والعسكري هناك، والذي تعتبره مصلحة قومية عليا. إذ يعاني السنّة من تشرذم جغرافي وسياسي وسكاني، واضحت قياداتهم السياسية تابعة لإيران، مدركين ان بقائهم في السلطة مرهون بمباركة طهران.
اما الكرد، فان تنامي تطلُّعاتهم بالانفصال عن العراق جر باتجاه خلافات مع حكومة بغداد، شكلت كركوك متغيراً مهماً فيه، وما يدرك هنا ان ثمة خلافات كردية –كردية حادّة وجوهرية دفعتهما في الماضي إلى مواجهات مسلحة دامية أسفرت عن الكثير من الخسائر البشرية والخراب المادي، ناهيك عن المواقف الإقليمية التي ترفض مثل هذا الانفصال، الذي بامكانه ان يكون مقدمة لتمزيق وحدة دول اخرى في المنطقة.
وما يعرفه الكرد جيداً انها خطوة في طريق تحقيق الطموح القومي وهي لن تكون سهلة وميسرة، وما سيتوافر عليه الاقليم من مكانة وقوة جراء مقاتلتهم “داعش” لابد ان ينعكس ايجاباً على مطالبهم القومية في دولة كردية مستقلة.
وما تدركه إيران جيداً انه ليس من السهولة بمكان تغيير ولاء بوصلة الحكومة العراقية حيالها والتي يهيمن عليها الشيعة، والفرضية الإيرانية تقول إن ترامب لن يتمكن في حال تحالفه مع الكرد او السنة من احداث تغيير في العلاقات الايرانية – العراقية، لجملة اسباب منها اتساع التأثير الإيراني على مفاصل السياسة والامن والاقتصاد في البلاد، والاعتبارات المصلحية التي تدور حول مسعى إيران لتثبيت السلطة بيد الشيعة والحفاظ على العملية السياسية بتقسيماتها الطائفية، ، فضلاً عن اذرع طهران العسكرية التي تؤثر في القرار السياسي العراقي، وتضاهي سلطتها سلطة الدولة، لتتبع المليشيات الشيعية “الحشد الشعبي” المنظومة الامنية وتمول من قبل الحكومة، لتخوض حروباً بالوكالة كلما ارادت إيران ذلك، إذ تحمل جهات إقليمية ودولية إيران المسؤولية عن انحراف الحرب على “داعش” في العراق عن مسارها، نحو وجهة طائفية تتجلّى في تسليط عقاب جماعي على سكان بعض المناطق بتهمة احتضان هذا التنظيم لمتشدّد.
وما يلاحظ هنا، قيام إيران بدور الوسيط لحل الخلاف الشيعي- الشيعي وعدم السماح بتحوله الى صدام عسكري، فالانسحاب من المنطقة الخضراء التي تم اقتحامها من قبل اتباع التيار الصدري في ابريل/ نيسان/ 2016 جاء بناءاً على اوامر إيرانية تعمل على ضبط تحركات التحالف الشيعي وتحول دون انفراط عقده.
وهو امر ينطبق على ما يواجهه رئيس الوزراء من ضغوط يوقعها المالكي لافشال سياساته، وتحيّن الفرص للاطاحة به وتأمين عودة الاخير إلى رئاسة الوزارة مرة اخرى، وهي تحركات محسوبة العواقب إيرانياً، تتراوح بين الشد والجذب كلما استشعرت طهران بتقارب بين العبادي والادارة الامريكية من جهة، او مع الساسة من الكرد او السنّة.
يكمل ما تقدم، تحوّل العراق إلى قاعدة إيرانية متقدمة، امتد تأثيرها إلى سوريا واليمن ولبنان، وليكون الجسر الذي تمر عبره طهران إلى أقطار الخليج العربي، لابتزازها، والعمل على إسقاط الأنظمة في الدول التي توجد فيها مجموعات شيعية ذات ثقل واضحٍ ملموسٍ، كالكويت والسعودية والبحرين.
تهديدات لن تصل الى خوض حرب
من المرجح ان تبقى وتيرة العلاقات الامريكية – الإيرانية دون مستوى الصدام المسلح وان تصاعدت حدة التهديدات المتبادلة بين الطرفين، بالنظر للاكلاف المترتبة على الحرب وتبعاتها الاقليمية والدولية. وان كانت التصريحات التي اطلقها الرئيس ترامب ابان الحملة الانتخابية تفيد بعزمه على الغاء الاتفاق النووي مع إيران، فانه امر يدخل في دائرة الترويج له كونه سيعتمد لسياسات مختلفة عن سابقه تخدم المصالح الأميركية ولا تلحق الضرر بها .
وبحسب ما جاء في مقال سايمون تيسدال في صحيفة الغارديان البريطانية والذي نشر في 5/2/2017 واستبعد أن يكون ترامب مقدما على عمل أميركي فردي ضد إيران لإلغاء الاتفاق النووي معها أو الالتفاف عليه. ورجّح الكاتب أن يكون الهدف من التصعيد مع طهران، هو تكثيف الجهود الأميركية لوصم إيران بأنها زعيمة الإرهاب وراعيه العالمي، بما يفضي لتكثيف الجهود لتقليص نفوذها بالشرق الأوسط.
وفي مقابل تضاؤل النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط ابان عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، نجحت إيران في تكثيف هيمنتها الاقليمية وكانت سيطرة “داعش” على اجزاء كبيرة من الاراضي العراقية، فرصة سانحة لإيران مكنتها من بسط نفوذها على العراق، عبر تواجد مستشاريها العسكريين والميليشيات الطائفية التي تدين لها بالولاء، حيث زادت ثقة الشيعة العراقيين بأيران لتكون المنقذ والحليف في مقاتلة “داعش”.
ويؤرخ بعض المحللين، انتهاء دور الولايات المتحدة الامريكية كقوة كبرى احادية في العالم، عندما رفض باراك أوباما ضرب نظام بشار الأسد، عند استخدامه الأسلحة الكيماوية، ليسمح بذلك بروز قوى جديدة في المنطقة، كانت تتوق لسد الفراغ، ممثلاً بروسيا وإيران.
وبقدر تعلق الامر بالنفوذ الإيراني في المنطقة، فقدد سمح التحفظ الأميركي في سوريا بترك المجال واسعا امام إيران، لتتغير التوازانات الاقليمية والتمدد باتجاه المتوسط، ووفقاً لهيلاري كلينتون فان الفشل في بناء قوة قتالية مكونة من المعارضين المناهضين للاسد ترك فراغا استغله “الارهابيون”. ويتفق العديد من الباحثين على إن الانسحاب الاميركي فاقم مشاكل واضطرابات المنطقة، التي هيمنت عليها “داعش” من جهة وروسيا وإيران من جهة اخرى.
ويمكن القول، ان العقوبات التي فرضتها إدارة الرئيس ترامب في 3/2/2017 على ثلاثة عشر شخصية إيرانية واثنتي عشرة شركة ردا على قيام طهران بتنفيذ تجربة صاروخ باليستي، ينظر لها من زاوية إيقاع الضغوط على إيران دون تقويض مباشر للاتفاق النووي معها. كما أعلن مسؤولون أمريكيون، أن الجيش الأمريكي نشر مدمرة تابعة للبحرية قبالة اليمن قرب مضيق باب المندب، بعد أيام من توجيه البيت الأبيض “تحذيراً رسمياً” لطهران، بسبب إجرائها اختباراً على صاروخ باليستي ودعمها الحوثيين في اليمن.
كوشنر في العراق
تأتي الزيارة التي قام بها جاريد كوشنر إلى العراق في وقت حرج يدرس فيه الرئيس ترامب سبل تصعيد حملة التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الامريكية، في مساعي لاستئصال “داعش” من العراق وسوريا. وكوشنر صهر الرئيس ومستشاره، وأحد أفراد الدائرة المقربة منه، والذي منح مسؤوليات واسعة النطاق داخلياً وخارجياً بما في ذلك العمل من أجل التوصل إلى اتفاق سلام في الشرق الأوسط، لذا يمكن لآرائه بشأن العراق أن تؤخذ على محمل الجد من قبل الرئيس.
وتأتى زيارته فى الوقت الذى تعمل فيه قوات الامن العراقية على استعادة الموصل، وهى اخر معاقل “داعش” فى العراق. حيث اشار كوشنير الى هذه الحملة معتبراً الشراكة بين القوات الامريكية والعراقية “مثيرة للإعجاب”. واعرب عن امله فى ان تكون الشراكة دائمة، مشيراً الى اهتمام البيت الابيض بالمساعدات العسكرية الامريكية على المدى الطويل.
أكثر ما يلفت النظر في هذه الزيارة، ما صرح به الجنرال جوزيف دونفورد رئيس الاركان المشتركة للجيش الامريكى، من ان اطلاع صهر الرئيس على مجريات الحرب على الارض، تساعد على الاحاطة بما يحدث، وصولاُ لاتخاذ قرارات استراتيجية، ما يتطلب تكرارها بانتظام.
وليس من الواضح، ما الذي يمكن ان تكون عليه وجهة نظر كوشنر حيال العمليات العسكرية الجارية في الموصل، وما هي النصيحة التي سيقدمها للرئيس؟ خصوصاً وان استراتيجية الحرب لم يعلن عن تغييرات بصددها.
وثمة مفارقة، بصدد الاستراتيجية الامريكية الرامية إلى الحد من النفوذ الإيراني في العراق، والتي تستند في احد مرتكزاتها على اسناد حكومة العبادي، ومنع إيران من ملء الفراغ الناتج عن هزيمة “داعش”، وحرمانها من انشاء جسر بري يمتد من إيران مروراً بالعراق وحتى سوريا فلبنان، وفي نفس الوقت تقود قوات خاصة بريطانية وأمريكية الهجوم على الجانب الغربي من الموصل، وتقدم اسناداً عسكرياً ودعماً جوياً للميليشيات الطائفية الموالية لإيران ويعتبر ذلك انتصاراً لواشنطن في حربها ضد الإرهاب.
ومن المتوقع، ان تعزز إدارة الرئيس ترامب جهودها الدبلوماسية والعسكرية في العراق، وصولاً لترتيب أوضاعها في مرحلة ما بعد “داعش”، إذ تمثّل الحرب على التنظيم فرصة مواتية لتأمين وجود عسكري لها على الأراضي العراقية.
ولتصحيح تداعيات الانسحاب الامريكي من العراق عام 2011، وما نجم عنه استحواذ إيراني على قراراته الامنية والسياسية والاقتصادية، أكمل الجيش الأميركي جميع مستلزمات إنشاء قاعدة عسكرية مؤقتة قرب منطقة الرطبة التي تقع على مسافة نحو 400 كلم غرب مدينة الرمادي، مركز محافظة الأنبار، وستشكل هذه القاعدة مركزًا للعمليات التي تستهدف تأمين الطريق الدولي الذي يربط العراق بكل من الأردن وسوريا. وإنشاء حاجز يمنع التواصل الحرّ بين طهران ودمشق مرورا بالأراضي العراقية.
كما تتمركز التعزيزات العسكرية الامريكية في ثلاث قواعد جوية رئيسة وهي: قاعدة عين الاسد الجوية “البغدادي” غرب الانبار، وقاعدة بلد الجوية في محافظة صلاح الدين شمال بغداد، وقاعدة القيارة الجوية في الموصل.
ويفسر إعادة التواجد العسكري الامريكي، كأحد بنود الاتفاق النووي الإيراني لجهة انشاء قواعد عسكرية امريكية في المناطق السنية، او انه تمهيد للمضي قدماً في إحتمال تقسيم العراق إلى دويلات ثلاث، سنية في غربه وكردية في شماله وشيعية في جنوبه.
الخلاصة
وتأسيساُ على ما تقدم، ستشهد المرحلة المقبلة مزيداً من الانغماس الامريكي في الشأن العراقي، إذ تسعى الادارة الامريكية الجديدة إلى إعادة الاعتبار لمكانتها كقوة احادية، بعد تطورات التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا، والذي سمح للروس بالتحرك لتأسيس نظام عالمي جديد متعدد الاقطاب، وهو ما دفعها من جهة ثانية إلى العودة للتواجد في الساحة العراقية عسكرياً وسياسياً.