الحمد لله، عمَّنا نعمًا وإنعامًا، والله أكبر منَحَنا عقولاً وأفهامًا، والحمد لله لا رادَّ لما أراد، والله أكبر ما لرزقِه من نفاد، والحمد لله مُصرِّف الأوقات، والله أكبر مُيسِّر الأقوات، لا إله إلا الله قدَّر الأمور وقضاها، وعلى ما سبقَ من علمِه أجراها وأمضاها، سبحانه وبحمده خلق الإنسانَ وصوَّره، وكتبَ رزقَه والأجلَ قدَّرَه، وأشكرُه وأُثنِي عليه فله الحمدُ في الأولى والآخرة، والَى علينا نعَمَه وآلاءَه باطنةً وظاهرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مُقِرًّا بتوحيده ومُعترِفًا، جلَّ جلالُه لم يزَل بصفات الكمال مُتَّصِفًا، إذا وعدَ وفَى، وإذا أوعدَ عفَا، وأشهد أن سيِّدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله رفيعُ المقام جليلُ الجناب، اجتباه ربُّه واصطفاه، وقرَّبَه وأدناه، أنزل عليه ذكرًا حكيمًا، وهدَى به صراطًا مُستقيمًا، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه، وعلى آله السادة الطيبين الأطهار، وأصحابه الغُرِّ الميامين الأخيار، المُهاجرين منهم والأنصار، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقبَ الليلُ والنهار.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على سيِّدنا ونبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم – أيها الناس – ونفسي بتقوى الله – عز وجل -، فاتقوا الله – رحمكم الله -، اتقوه حقَّ التقوى، اتقوا يومًا تُرجعون فيه إلى الله، يوم يُبعَث ما في القبور، ويُحصَّل ما في الصدور، يوم ينظر المرءُ ما قدَّمت يداه، يوم يعضُّ الظالمُ على يديه أسِفًا على ما اقترفَه وجنَاه.
فاتقوا الله – رحمكم الله -، وبادِروا إلى ما يُحبُّه ربُّكم ويرضاه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].
الله أكبر، وهو أحقُّ من عُبِد، والله أكبر، وهو أحقُّ من ذُكِر، والله أكبر، وهو أحقُّ من شُكِر.
معاشر المسلمين:
عيدُكم سعيدٌ ويومُكم مُبارَك، وتقبَّل الله منا ومنكم الصيامَ والقيامَ وصالحَ الأعمال، البَسوا الجديد، واشكُروا العزيز الحميد في فرحٍ لا يُشغِل، وبهجةٍ لا تُبطِر.
هذا يومُ العيد، يومُ الزينة، يومٌ عظَّم الله قدرَه، وأفاضَ علينا من النِّعم ما يُوجِبُ شُكرَه. فاحمَدوا اللهَ على التمام، واستقيموا على شرائع الإسلام. كلُوا واشرَبوا، وتزيَّنُوا وتجمَّلُوا، (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف: 26].
أيامُ العيد أيامُ بِشْرٍ وسُرور، وفرحٍ وحُبُور، فاستَديمُوا نِعَم الله بشُكرها. المُسلمُ كما يتَّصِلُ بربِّه عبادةً وشُكرًا يتَّصِلُ بخلقِه محبَّةً وإخاءً، ولُطفًا ومودَّة. يومُ فرحٍ وزينةٍ وعبادة. المسلم يؤمن بالله العظيم، ويحُضُّ على طعام المسكين.
ليس مطلوبًا أن تُذرَفَ الدموعُ في العيد بُكاءً على المآسِي، ولا أن يعلُو الحزنُ على المُحيَّا اشتغالاً بالهُموم. ليس العيدُ لإحياء الأحزان وتذَاكُر الآلام؛ فهو يومُ الزينة، ويومُ الإحسان والبرِّ، ويومُ التزاوُر والتهادِي.
الله أكبر ما تنزَّلَت الرحماتُ من الكريم المنَّان، والله أكبر ما تواصلَت الصلوات على سيِّدنا محمدٍ سيِّد الثَّقَلَيْن الإنس والجان.
أيها المسلمون:
لا يعيشُ المسلم فرحةَ العيد إلا حين يشعرُ بالبهجة في مشاعره، والسرور على مُحيَّاه، وقسَماتُ وجه المرء انعِكاساتٌ لدواخِله، والذي لا يُغيِّر ما بنفسِه لا يُغيِّرُ ما حولَه.
من حقِّ أهل الإسلام في يوم عيدِهم أن يسمعوا حديثًا مُبهِجًا، وكلامًا مُؤنِسًا. يقول ابن بطَّال: “جعلَ اللهُ من فِطَر الناس محبَّة الكلمة الطيبة والأُنسَ بها، كما جعل فيهم الارتياحَ بالمنظر الأنيق والمعين الصافِي وإن كان لا يملكُه ولا يشربُه”.
بطبع الإنسان أن يبتهِجَ بالهيئة الحسنة والمكان الفَسيح والمنظر البَهيج، وإذا كان ذلك كذلك فإن الحديثَ عن الجمال والزِّينة في يوم الزِّينة يُسهِمُ في الإسعاد في يوم العيد، والإبهاج في يوم البهجة.
الله أكبر، وربُّنا أحقُّ من حُمِد، والله أكبر، وربُّنا أجودُ من سُئِل، والله أكبر، وربُّنا أوسعُ من أعطى، والله أكبر كلما صلَّى المُصلُّون على صاحب اللواء والكوثَر.
أيها المسلمون:
فطرَ الله النفوسَ على الإحساس بالجمال وحبِّه والميل إليه، وحبِّ الزينة والتجمُّل بها والأُنس بها، والتعلُّق بكل ما لطَفَ وأبهجَ من الألوان المتناسبة والمناظر المتناسقة، زينةٌ وتجمُّلٌ في النفوس، وزينةٌ وتجمُّلٌ من أجل الآخرين.
الإنسان جسمٌ وروحٌ؛ جسمٌ حيٌّ يأكل ويشرب، ويعمل ويكدَح، وينام ويتعب. وروحٌ تتذوَّق المعاني والجمال، والزينةَ والبهجة.
الجمال والزينة تستهوِي النفوس، وتقَرُّ بها الأعيُن، وتلذُّ بها الأذواق، وقد جعل الله في الجمال والزينة الرضا والسعادة والبهجة، والجميل هو الذي يفيضُ حيويَّةً ويتلألأ بهجةً حيثما حلَّ، ومن مُنِح الاستمتاعَ بالجمال مُنِح السماحة والابتسامة، والهدوء والنظام، والإبداع والتفكير.
حتى قالوا: “كلما رُزِق العبدُ نُبلاً ورفعةً ازدادَ جمالُه وازدادَ إحساسُه بالجمال وتمتُّعُه بالزينة”.
الله أكبر وهو المُتوحِّدُ بكمال الجمال تعظيمًا وتكبيرًا، ولا إله إلا الله وهو المُتفرِّدُ بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديرًا وتدبيرًا.
معاشر الأحبة:
حبُّ الجمال والزينة مركوزٌ في الفِطَر، وقد اجتمع على ذلك الطبعُ والشرعُ، والجمالُ والزينة مقصدٌ من مقاصِد الشرع يمتنُّ بها اللهُ – جلاَّ جلالُه – على عباده. فليست النعمةُ والمنَّةُ من الله اللطيف الجميل قاصرةً على تلبية الضروريَّات والحاجيَّات من طعامٍ وشرابٍ ومركبٍ وملبسٍ؛ بل جعلَ بلُطفِه الزينةَ والجمالَ قرينةً للمنفعة، فقال – عزَّ شأنُه -: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [النحل: 5- 8].
المنفعةُ في الأكل المُشبِع، واللباس الكاسِي، والغطاء الدافِئ، والمركب المُوصِل. والمتعةُ بالجمال المُبهِج، والزينة المُفرِحة من أشواق الجمال، وفرحِ الوِجدان، ومباهِج الشُّعور. وكلُّ ذلك محلُّ النعمة والمنَّة، فلله الحمدُ والشكر.
كتابُ ربِّنا جاء بالجمال، وحكَى الجمال، ودعا إلى الجمال، وامتلأ بمعاني الجمال، اقرأوا وتأمَّلوا: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ) [ق: 6- 10].
ويقول – جل وعلا -: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ) [الملك: 3- 5]، ويقول تعالى: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ) [الحجر: 16]، ويقول – عزَّ شأنه -: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) [النمل: 60].
ويقول – جلَّ في عُلاه -: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [غافر: 64].
يقول المناويُّ – رحمه الله -: “إن الله جميلٌ أي: له الجمال المُطلق، جمال الذات، وجمال الصفات، وجمال الأفعال. وامتنَّ بكل جميلٍ، وحثَّ على النظر في كل جميل؛ فالعينُ تُدرِك المنظر الجميل، والأُذُن تسمعُ الصوتَ الجميل، والأنف يُدرِك الرائحةَ الطيبة، واليدُ تتحسَّسُ الملمسَ الناعم، واللسان يذوقُ الطعمَ اللذيذ. ناهِيكم بما يستثيرُ الإنسان من وِجدان ومشاعِر ومباهِج”.
ويقول الإمامُ ابن القيم – رحمه الله -: “ولمحبَّته – سبحانه – للجمال أنزلَ على عباده لباسًا وزينةً تُجمِّلُ ظواهرَهم وتقوَى تُجمِّل بواطِنَهم، فقال – عزَّ شأنُه -: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) [الأعراف: 26]، وقال في أهل الجنة: (فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) [الإنسان: 11، 12]. فجمَّل ظواهِرَهم بالنظر، وبواطِنَهم بالسرور، وأبدانَهم بالحرير”.
وحينما امتنَّ – عزَّ شأنُه – بما أخرجَ من النبات والثَّمَرات ذات الألوان المُختلِفات، والقِنوان الدانيات، والزيتون والرمان والأعناب، قال – عزَّ شأنُه -: (انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) [الأنعام: 99].
إنه يشملُ النَّظَرين: نظرَ الاعتبار والاستِبصار، ونظرَ التمتُّع بالبهاء والجمال.
ومن لطيفِ ما أدركَه علماؤُنا وقوفُهم عند تقديم الرَّواح على الاستِرواح في قوله – عزَّ شأنُه -: (حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) [النحل: 6].
يقول الشوكانيُّ – رحمه الله -: “وقدَّم الإراحةَ على التسريح؛ لأن منظرها عند الإراحة أجمل؛ إذ تكون مُمتلئَة الجسم حافِلَة الضَّرْع. وفي قوله: (وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [النحل: 8] توسيعٌ في النظر والنظرة للتصوُّرات والمدارِك لقبول كل جديدٍ في شُؤون الحياة والأحياء فيما أحلَّه الشرعُ ورشَّد مسلَكَه، في استِقبالٍ مُتفتِّحٍ لعجائب الخلق والعلم والحياة، والمُستحسَنات، وأدوات الجمال، وألوان المُبهِجات فيما يخلُقُ ما لا تعلمون مما يختلفُ باختلاف الزمان والأحوال والبيئات”.
الله أكبر والعزَّةُ لرسوله وللمؤمنين، والله أكبر والصلاة والسلام على نبيِّنا محمدٍ خاتم النبيين وسيِّد المرسلين.
أيها الإخوة:
الجمالُ هو القدرة على تذوُّق حلاوة الأشياء، وعُذوبة الأجسام برهافَة الحسِّ، وصفاء المنظر، ودقَّة التمييز، والتجمُّل – يا من تُحبُّون التجمُّل أيها الإخوة تقبَّل الله منا ومنكم – التجمُّل تحسينُ المظهر بما يمنَحُ الوضاءَة والحُسن في المظهر والمنظر مُشاهدةً وذوقًا.
ويقول ابن القيم: “إن الله جميلٌ يحبُّ الجمال، يتناولُ هذا جمالَ الثياب المسؤولَ عنه في الحديث، ويدخلُ فيه بطريق العُموم الجمالُ في كل شيء”.
الله أكبر نصرَ عبدَه، وأعزَّ جُندَه، وهزمَ الأحزابَ وحده.