لا بدّ من أن تتغيّر نظرتنا إلى البحث العلمي لكونه لم يعد رفاهية بل ضرورة فرضتها متغيّرات العصر وطبيعة الحياة، ولا سبيل للنهوض لوطننا الغالي اليمن إلّا من خلاله.
وللإستدلال على أهمية ما ذكرت فسأقدم لكم هذه الاطلالة المختصرة والمواجهة عن دور البحث العلمي في رسم الخطط التنموية والمشاركة في صناعة مستقبل أفضل للأجيال القادمة ….
يُعَدّ البحث العلمي أحد المكوّنات الأساسية للتنمية الشاملة؛ كما أنّ المؤسسات الأكاديمية لا يمكن أن تسهم في عملية التنمية إلّا بتفعيل آليات عملها البحثي، والتركيز على قضايا التنمية.
وإذا نظرنا إلى البحث العلمي في اليمن خلال العقد الماضي، سرعان ما سيتبيّن لنا أنّه ظل على الرّغم من تطوّره المقتبض إلى أنه يفتقر إلى وجود استراتيجية وخطط بحثية متكاملة للعلاقة التي تربطه بالتنمية،
بحيث تكاد تكون العلاقات البحثيّة بين المؤسسات البحثيه وخطط التنمية ومـؤسّساتها محدودة وبشكل أكثر دقه معدومه.
ولذا فإن دور المؤسسات البحثيه في مجال البحث العلمي يواجهه الكثير من المعوّقات والمصاعب والتحدّيات، لأنّ هذه المؤسسات البحثية لم تتبوّأ مكانتها الحقيقية، ولم تصل للحد الذي تكون فيه جزءاً لا يتجزّأ من العملية السياسية والتنموية، ولذلك أسباب تتعلق بخصوصيّة البيئة التي تعمل فيها، وبالإشكاليّات والتحدّيات التي تؤثّر على دورها وعملها وحراكها، بحيث بدا دور معظمها باهتاً وغير فاعل في عملية التنمية المجتمعية بأبعادها كافّة.
ثمّة تراجع فى مستوى البحث العلمي بحيث يتبدّى هذا التراجع في ضعف الإنتاجية البحثية وضعف الدور الذي تمارسه المراكز البحثية في إنتاج المعرفة وابتعاد البحوث عن معالجة مشكلات الواقع والمجتمع المحيط به والاعتماد على الجهود الفردية كأساسٍ للعمل البحثي، والبُعد عن العمل المؤسَّسيّ.
كما أنّ البحث العلمي في نطاقه الوطني يعاني من مشكلات ومعوّقات عدّة، لعلّ أبرزها التمويل، وهو أهمّ عائق يواجه المؤسّسات البحثية اليمنية ،
والافتقار إلى الموضوعية والاستقلالية في العمل، وانعدام العمل المؤسّسي المستقلّ والمناخ الديمقراطي، والعشوائية في العمل، وضعف المعلومات،
وعدم توافر قواعدها وفق النُّظم المعلوماتية الحديثة، وغياب نظامٍ جاذب للكفاءات، وقضيّة التسييس، وافتقاد الموضوعية، وغياب مقاييس أو أدوات لتقييم المؤسّسات البحثية.
ويتضح من خلال كل ما سبق ذكره وجود فجوة قائمة بين البحث العلمي ومجالات التنمية تتمثل في عدة جوانب أهمها :
☆عدم وضوح الرؤية والفلسفة الشاملة للبحث العلمي.
☆خلوّ السياسات البحثية في الكثيرٍ من المؤسسات البحثية من تحديدٍ واضحٍ لأهداف البحث العلمي.
☆فقدان الاستقلاليّة: فالجامعات والمؤسسات الأكاديمية والبحثية في وطننا تفتقد الاستقلال المالي، ومن ثمّ تكون خاضعة لعلاقات تبعيّة سياسية أو حزبية، أو تكون خاضعة لسياسات الدولة.
☆البعد عن الواقع: وهو ما يشكّل الداء القاتل للمؤسّسات البحثية، لأنّها لا تستطيع أن تقنع المجتمع بدراساتها، ولا صانع القرار بتوصياتها، ولا تجذب رجل الأعمال لكي يسهم في تمويلها.
☆غياب الخطط أو التخطيط المنظَّم، وغياب التنسيق الكافي بين المشروعات البحثية للجامعات والمؤسسات الأكاديمية واحتياجات قطاعات الإنتاج ومؤسّسات ومنظمات الأعمال.
☆نقص الاعتمادات المالية، وعدم وجود حوافز مُجزية للباحثين تشجّع على البحث والابتكار.
☆اعتماد البرامج والأنشطة البحثية على الجهود الفردية لأعضاء هيئة التدريس بالجامعات والمؤسسات الأكاديمية .
☆تدنّي كفاءة الجهاز الإداري، وسيادة النُّظم الروتينية للإدارة الجامعية والأكاديمية ناهيك عن طبيعة البنية العقلية السائدة في المجتمع، والتي أدّت إلى غياب ثقافة الإبداع”.
☆تركيز المؤسّسات البحثية والتعليمية على نقل المعرفة نقلاً مجرّداً، والاهتمام بالبحوث والدراسات النظرية، من دون إجراء البحوث التطبيقية إلّا في حدود ضيّقة”
☆ضعف الإعداد والتدريب والتأهيل العلمي للباحثين وعدم كفايته؛ بحيث تشكّل برامج الإعداد السيّئة أحد عوامل سوء البحث العلمي الوطني وضعف نتائجه.
☆ الفجوة بين الباحثين وصنّاع القرار؛ إذ إنّ نتائج البحوث لا تصل إلى صنّاع القرّار في كثيرٍ من الأحيان، ما يجعل الاستفادة منها في مجال التطبيق ضعيفة، ويرجع ذلك إلى عدم إيمان صنّاع القرار بالأبحاث ونتائجها، وكتابة الأبحاث بلغة علمية يصعب على صنّاع القرار التربويّين فهمها، وعدم الميل لدى صنّاع القرار للقراءة.
☆التوجّه المسبق لدى الباحث لتبنّي نتائج معيّنة؛ ذلك أنّ إيمان الباحث بفكرة ما أو بأسلوب ما أو بتطبيقٍ محدَّد قد يؤثّر على الأساليب المستخدَمة، فضلاً عن تأثيره على العيّنات والأدوات والنتائج، من دون قصد ربّما أو عن قصد.
☆التطفّل الأكاديمي؛ ويُقصد به أولئك الأفراد الذين لا يتطلّعون إلّا إلى الشهرة فحسب، وهُم في حقيقة الأمر لا علاقة لهم بالبحث العلمي لا من قريب ولا من بعيد، ويندرج عملهم في إطار التطفّل الأكاديمي والاستغلال الأكاديمي، أي استغلال الباحثين لطلّابهم عبر تكليفهم بإعداد بحوث سرعان ما ينسبونها إليهم، ناهيك بمشكلة السرقات الأكاديمية.
☆كثرة الإجراءات الإدارية المعقدة؛ فقد يحتاج الباحث تصريحاً لإجراء البحث في مؤسّسات حكومية، لكنّ الاستحصال على هذا التصريح صعب، الأمر الذي يدفعهم إلى إنجاز بحوثهم سرّاً وبطرق قد تكون مظلله لنتائج أبحاثهم في حال تمكّنهم من ذلك.
☆ضعف بنية الهيكل الأكاديمي؛ فالعاملون في المجال الأكاديمي في مجتمعنا اليمني لا يشكّلون قوّة توازي أهمّيتهم في المجتمع، وذلك بسبب قوّة انتمائهم إلى المؤسّسات التي يعملون فيها على حساب انتمائهم لبعضهم البعض كجسم أكاديمي واحد.
ومن خلال كل ما سبق نجد بأننا في حاجة ماسّة إلى مراجعة أساليب البحث العلمي وأنماطه.
ولا بدّ بالتالي من أن تقوم الجامعات والمؤسسات البحثية بدورها في إطار من التنسيق مع متطلّبات التنمية وقضاياها في مجتمعاتنا .
فإذا كنّا جادّين في إصلاح الجامعات والمراكز البحثية، فلا بدّ من إعادة النظر في دور البحث العلمي، ومعالجة الفجوة الراهنة بين البحث العلمي وقضايا المجتمع، وزيادة ميزانياته، وإعداد الخطط بالأولويّات البحثية، والتنسيق بين الجامعات ومراكز البحوث للتصدّي لتلك القضايا، ورفع مهارات الباحثين وكفاياتهم، وزيادة فرص احتكاكهم من خلال البعثات ودعم مشاركتهم في المؤتمرات والندوات، وزيادة حوافز النشر في الدوريات والمؤتمرات العالمية، والتوجّه نحو إنشاء الجامعات البحثية، وتطبيق معايير الجودة في مجالات التعليم الجامعي، والتنسيق بين الجامعات لتبادل البحوث ونشر نتائجها …