تتحدث موجة من التكهنات المتضاربة عمّا يمكن أن يحمله قاسم سليماني، الذي وصل النجف في 12/5/2014 قادما من مطار مهرآباد بعد اجتماعه بالمرشد الايراني علي خامنئي، حيث كان في استقباله جمال محمد جعفر، المعروف باسمه الحركي أبو مهدي المهندس، الذي يقول عنه مسؤولون عراقيون، إنه اليد اليمنى لقائد “فيلق القدس” قاسم سليماني، ويثني عليه بعض مقاتلي ميليشيات الحشد الشعبي على أنه بمثابة قائد لجميع “القوات” التي تعد كلمته كالسيف عليها، واكثر من هذا فانه ممثل إيران في العراق.
وما اكد عليه قاسم سليماني في زيارته لطهران استطاع مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية التعرف الى ابرزها، والتي تدور حول تنفيذ استراتيجية تطويق المملكة العربية السعودية، من مناطق توجد فيها قوى شيعية ناشطة، تحيط بالمملكة من الشمال والجنوب والشرق. ولهذا، دعا ميليشيات الحشد الشعبي إلى التمركز على الحدود العراقية –السعودية التي يبلغ طولها بحدود 850 كيلومترا، لتأمين خطوط الامداد لنظام بشار الاسد عبر الأراضي العراقية بعدما حال تنظيم “داعش” من بلوغهم النقاط الحدودية، التي كانت تمثل شريان الحياة لنظام الاسد على مدى سنوات.
ومع ذلك، يبدو ان المسعى الايراني يكشف في احد اوجهه عن انزعاج من العمليات العسكرية التي يقوم بها التحالف العربي ضد الميليشيات الحوثية، حيث دعا قائد “الحرس الثوري” اللواء محمد علي جعفري إلى اتخاذ موقف أكثر عدائية ضد عمليات التحالف في اليمن، بينما دعا رئيس هيئة الاركان العامة للقوات المسلحة الايرانية اللواء حسن فيروز آبادي إلى إنزال “أشد العقوبات” بالرياض، لتكون الاراضي المحاددة للسعودية في قبضة الميليشيات الطائفية، وما تعنيه من احتمال التعرض للمملكة او التلويح به. إلا أن الأمر يبدو أشبه بتحذير واضح إلى التحالف الذي تقوده السعودية بأن احداث اليمن لن تمر دون انتقام.
وبعبارة اخرى فان ايران تسعى لقطع الصلة بين الأنبار وعشائرها والمملكة العربية السعودية والأردن، وفرض (طوق شيعي) حول السعودية من جهة العراق، وترسيخ النفوذ الايراني في المناطق التي يتجاور فيها الاخير مع دول عربية. وبموجب هذه الاستراتيجية، تستطيع الميليشيات ان تتصدى عسكرياً بالنيابة عن طهران، ويمكن أن تتصاعد هذه الإجراءات بسرعة لتصل إلى حد قيام مواجهة عسكرية أوسع مع بعض دول الخليج العربية. يكمل ما تقدم استخدام الموانئ العراقية نقاط لنقل الأسلحة الإيرانية إلى دول خليجية عبر سفن شحن تجارية، لتصل الى تجمعات طائفية معارضة في هذه الدول.
ونظرا لخطورة الاوضاع العسكرية في محافظة الانبار بعد سيطرة “تنظيم الدولة” على مساحات واسعة منها أوائل الشهر الماضي، فان زيارة سليماني هذه اريد بها تقوية الميليشيات الطائفية وتدعيم مكانتها العسكرية والتسليحية قبيل المعركة المرتقبة، والتأكيد ان إيران هي من تمول وتسلح الحشد الشعبي وباشراف “الحرس الثوري”، وان شحنات من اسلحة إيرانية ستصل قريبا استعدادا للمعارك المقبلة في مدينة الانبار ثم نينوى. إذ لابد ان يكون لأذرع إيران الميليشياوية القدح المعلى في المواجهات المقبلة، وما يمكن ان يترتب على ذلك من تعزيز للجغرافيا الشيعية في المناطق السنية.
وفي هذا السياق، اكد سليماني لمن التقاهم من ساسة وقادة ميليشيات عودة المستشارين الايرانيين إلى العراق بعد مغادرتهم البلاد وزيادة اعدادهم، وبحسب مسؤولين عراقيين فان عدد المستشارين الإيرانيين في العراق يتراوح بين 100 وعدة مئات ساعدوا في وضع الخطط العسكرية، وتنظيم المتطوعين الشيعة في ميليشيات الحشد الشعبي، وتقديم المساعدات التكتيكية وتوفير إمكانات الاستطلاع والإشارة اللاسلكية، باستخدام الطائرات المسيرة لإجراء المسح الإلكتروني والتقاط الاتصالات الراديوية، وتفسر هذه الخطوة ارتباطا بما تقدم لتعزيز قوة الميليشيات الشيعية، ما يسمح لهم بالعودة ثانية بعد القضاء على “تنظيم الدولة” من تثبيت اركان الدولة الطائفية التي أرسى قواعدها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي.
وما يلاحظ هنا، ثمة فجوة خفية بين امنيات رئيس الوزراء حيدر العبادي، لجهة الاستجابة لعمليات الاصلاح الوطني وترتيب البيت العراقي، والاخذ بأسباب المصالحة الوطنية، وبين تلك التي يكون النظام الايراني على استعداد للقبول بها، وليس بمقدور سليماني تخفيفها رغم تأكيده دعم العبادي وتقوية حكومته. فإيران معنية ببناء علاقات أمنية قوية مع بغداد، في مجالات التعاون والتدريب ومبيعات الأسلحة، ولكن من غير المرجح أن تقبل طهران بتسليح ابناء العشائر السنية، وهذا يعود الى عامل فقدان الثقة بأهل السنّة في العموم، وعدم الاكتراث الايراني بمبدأ التوافقات السياسية داخل الحكومة والبرلمان. ولعله لب الخلاف بين الحكومة والعبادي. اضف الى ذلك فان مشروعا لرسم خرائط سكانية وجغرافية يجري تنفيذه على قدم وساق سواء في سامراء او تكريت او ديالى، وبالسرعة الممكنة؛ ما يعيد رسم التركيبة السكانية لهذه المناطق ذات الأهمية الحيوية لكل أطراف الصراع المحلية والإقليمية أيضًا.
وخلال الزيارة ناقش سليماني مع هذه القيادات احتضان التيار الشيعي المدني والمعتدل الرافض للكثير من السياسات الحكومية وحالات الفساد المالي والاداري وتغييب الوطنية العراقية بسبب التدخلات الإيرانية السلبية في المنطقة؛ سواء كانت في لبنان، أو سوريا، أو العراق، أو اليمن، أو أماكن أخرى. والداعي إلى النموذج المتأسس على إرساء التكامل والتعايش والتنوع والخصوصية، مع محاولته النأى بالطائفة الشيعية عن المواقف السياسية التحريضية، التي تجعلها وقوداً لرغبات إيران وأعوانها في المنطقة تحت شعارات دينية ونتيجة تعبئة وتحريض ديني لا يؤسس سوى لمزيد من الانقسام والتباعد.
ودعا سليماني للعمل على دفع التيار الشيعي المعتدل تجاه الخضوع المطلق للسلطة السياسية الشيعية بطبعتها الطائفية؛ والنزوع إلى تحجيمه عن التفاعل مع الآخر؛ ومضاعفة الجهود لاستدعاء التاريخ وايقاع الحاضر في خلافات الماضي؛ وترسيخ النزعة الفوقية المقوضة للاندماج الاجتماعي. ومن هنا وللمضي قدما في سياسة استيعاب التيار الشيعي المعتدل، سوف يتم استقطاب من يمثلون هذا التيار من خلال عقد لقاءات معهم سواء في داخل العراق، او دعوتهم لزيارة ايران. رغم محدودية هذا التيار وعجزه عن كسب بعض المناصرين، حيث يتبع جمهور الشيعة إيران ومشروعها، فان قيادات سياسية شيعية توصف بالاعتدال لم تجد الا منابر اعلامية عربية تدعو من خلالها إلى وحدة الصف الوطني.
وما يسعى سليماني إلى تحقيقه، يتمثل في تعزيز الادراك لدى هذا التيار بأن أمر المذهب لا ينهض إلا بعُصبة دينية متشددة متطرفة في سياساتها وسلوكها، فلا يصلح لأمر المذهب شيعي علماني يتناقض فكره مع اعتقادات الشيعة وطقوسهم، كما لا ينفع لقيادة الجماهير مراجع دينية تدعو للتخلص من ثقافة الثأر والمظلومية ورفض سب الصحابة وولاية الفقيه، وهي مفردات خطاب من يوصفون بالإصلاح والتجديد أمثال (محمد حسين فضل الله، علي الأمين، ومحمود الحسني الصرخي).
عودة قاسم سليماني الى العراق مجددا لترتيب المشهد العسكري قبل معارك الانبار، لا تخلو من رسالة تأكيد لادوار طهران وطموحاتها الامبراطورية طويلة الأجل، وتذكير رئيس الوزراء العراقي باستحالة تحركه خارج الارادة الايرانية ومصالحها، وإن العلاقات الاستراتيجية بين بغداد وطهران هي أقوى وأكثر أهمية من أي علاقة اخرى