على الرغم من أن الكاتبة والأكاديمية الإيرانية، آذر نفيسي، في كتابها أشياء كنتُ ساكتةً عنها، ترجمة علي عبدالأمير صالح، والصادر عن الجمل، 2014، قد اعتبرت ما ورد فيه عبارة عن “ذكريات”، فإنه يمكن تصنيفه، وبحق، سرداً تاريخياً، لا لشخص وأسرة المؤلفة، وحسب، بل لجزء هام من تاريخ إيران المعاصر. ولعل تعرضها للطرد من التدريس في الجامعة، كان أولى الإشارات عن الأشياء التي كانت “ساكتة عنها” إلا أنها قد عايشتها وشكلت موقفاً احتجاجياً منها، وعبرت عنها مراراً.
ففصلت نفيسي من التعليم بجامعة طهران عام 1981 لأنها “رفضت ارتداء الحجاب”، ثم غادرت نهائياً إلى الولايات المتحدة الأميركية هي وعائلتها منذ عام 1997 .
ما بين السيرة الذاتية والتأريخ
يمكن تصنيف الكتاب بأنه ينتمي إلى أدب السيرة، فهو يرصد تفاصيل الطفولة والمحيط الاجتماعي والعلاقات الأسرية والروابط العائلية، وقصص الزواج والطلاق والحب والجنس. خصوصاً أن آذر نفيسي من أسرة عريقة، وكان والدها محافظاً لطهران وتعرض للاعتقال والمحاكمة والسجن. إلا أنه في المقابل، كتاب ينطوي على حس نقدي رفيع، بسبب الثقافة الأدبية التي تتمتع بها المؤلفة، وهي الأكاديمية الشغوفة بالأدب والفلسفة.
وعندما يتساوى الحس النقدي مع التذكر والتداعي، تصبح السيرة عملاً تأْريخياً، ليس للذات، فحسب، بل للعالم الخارجي الذي كانت ثورة الخميني، جزءاً أساسياً فيه، لما مثلته من صدمة ثقافية بالغة تركت أثرها لدى نفيسي التي عبرت، بشخصها، عن دهشة جيل إيراني كامل تعرض للخديعة من اختباء الخميني وراء العلمانيين والقوميين واليساريين، ثم اختطافه للثورة والقضاء على حلفائه في مرحلة تالية.
وقد تكون الأشياء التي كانت ساكتة عنها، هي المحرك الفعلي للتعامل مع مذكراتها بصفتها “إجابة عن أسئلة رقيبي ومحققي الداخلي” عندما حاولت فهم: “ماذا يعني بالنسبة للضحية أن تصبح شريكة في جرائم الدولة بزمن طويل”. ذلك أن أنواع السكوت والصمت، كثيرة، على حد قولها، إلا أن أقساها: “سكوت الشهود الذين يفضلون تجاهل الحقيقة، وسكوت الضحايا الذين يصبحون غالباً شركاء في الجرائم التي ارتكبت ضدهم”.
من هنا، قررت نفيسي التحدث عن الأشياء التي كانت ساكتة عنها، على الأقل كيلا يكون الضحايا شركاء في ما ارتكب ضدهم في زمن ما، عندما فرض: “النظام السياسي عديم الرحمة صورته الخاصة على مواطنيه، سارقاً هوياتهم وتعريفاتهم لأنفسهم”.
لكنها لا توفر الشارع السياسي والجماهير من سهام نقدها التي طالت المجتمع الإيراني بأسره بعد عام 1978 عندما قام الإيرانيون: “باختيار آية الله الخميني الذي كان يبز الشاه في طغيانه”. مما دفعها إلى انتقاد الشارع السياسي بأكمله بعدما كان “يتفجع على مصدق” ثم “ينتخب خميني” فتقول: “إلى أي مدى يمكننا أن نثق بالجماهير؟”.
“ممثل عن الله” اسمه الخميني
تعترف آذر، بأن القوى العلمانية واليسارية، هي التي افتتحت الاحتجاجات، في إيران، نهاية سبعينيات القرن الماضي، والتي عصفت بحكم الشاه. إلا أنها تكمل مسيرة البوح التي كانت ساكتة عنها، ومنها أن “الخميني وأتباعه برزوا الآن في إيران” لأنها هي وجيلها السياسي الذي تنتمي إليه، كما تقول “كنا نتجاهل عمداً ما كان يخطط له الخميني”، مع أن زعيم الثورة الإسلامية صرح علناً في كتابه (دور فلسفة التشريع) بـأنه ينوي تأسيس “دولة دينية يقودها ممثل عن الله”. كما أن الخميني أعلن صراحة أن “التمرد على حكومة الله تمرد على الله. والتمرد على الله بمنزلة الكفر”.
وليس ذلك فقط، بل إن الخميني اعتبر حق النساء بالتصويت “شكلاً من أشكال العهر”. لكن المؤلفة تجد عذراً مخففاً لها ولجيلها الذي “تغاضى” عن نوايا الخميني السياسية، بأن الأخير كان يمارس التقية وكان هو نفسه “يحجم بدهاء عن نشر خططه بين الجماهير”، هذا فضلاً عن أنه أوهمهم بأنه سيترك “قضايا الدولة للسياسيين” بعد أن “يعتكف في مدينة قم”. إلا أن الوقائع أثبتت أن الكل قد وقع في فخ الثوريين المعممين الذين بزوا الشاه في طغيانه، على حد تعبيرها. خصوصاً أن الخمينيين قد قاموا بقتل مواطنين إيرانيين حرقاً فقط لاتهام حكومة الشاه وتحريض الشارع ضده.
400 جثة متفحمة لتسريع الثورة!
في شهر أغسطس من عام 1978، قام مجهولون بإضرام النار في سينما “ريكس” في مدينة عبادان، وعلى الفور تم اتهام حكومة الشاه بالعملية. وتتحدث المؤلفة عن أن المعارضة العلمانية والدينية، قد ثارت ثائرتها على الشاه، ذلك أن الحريق المتعمد في السينما قد أدى إلى أن يلقى أكثر من 400 شخص مصرعهم حرقاً، خصوصاً أن الحريق كان في شهر رمضان، ما أكسب الحادث أبعاداً دينية وشعبية جارفة.
وتؤكد المؤلفة أن حكومة الشاه لم تكن وراء الحريق، بل أفراد من “المعارضة الدينية” الذين قاموا بهذا من أجل أن “يسرعوا العملية الثورية”.
وعلى الرغم من قسوة ما كشفته المؤلفة، من تورط جماعة الخميني بحرق الإيرانيين، فقط لـ”يهيجوا الجماهير ضد الشاه”، فإنها تستخدم هذه الحادثة، لتبكيت نفسها وتوجيه اللوم القاسي لذاتها، على اعتبار أنها – أي المؤلفة – كانت “ساكتة” وقت حصول المجزرة: “أين كنتُ عندما اكتشفنا هذه الحقيقة؟ ماذا فعلت؟.. الجميع متورطون، حتى الضحايا، أو المتفرجون، ومنهم أنا”. ومن جملة المتورطين “وسائل الإعلام العالمية، وكل شرائح المجتمع الإيراني، العلمانيون، القوميون، الراديكاليون” الذين كانوا “يحجون” إلى مزرعة الخميني في قرية فرنسية “كي يعبروا عن احترامهم وتقديرهم له”. لتختم الأكاديمية الإيرانية في سخرية لاذعة: “إن مفارقة الرجل الإلهي (الخميني) الذي يدير ظهره للعالم، وفي الوقت نفسه يتآمر ويخطط للسيطرة عليه”.
بل إن المؤلفة، تتحدث، بعد كل ما فعله الخميني بالشعب الإيراني، فزعيم الثورة “محروس” إلى درجة أن سيدة إيرانية شوهت سمعته، فقفزت عليها قطة من برميل القمامة، انتقاماً، وعضتها، مما أدى إلى موتها! حتى إن خالة المؤلفة كانت تحدثها عن صورة الخميني التي تظهر على القمر، هناك، في السماء!
أسوأ الفاتحين.. الخميني وجماعته
لن يكون صعباً على القارئ، أن يتقبل حقيقة الأوضاع في إيران بعد ثورة الخميني، بعد التذكير الذي كان يقوم به محافظ طهران الأسبق، والد المؤلفة، ويخبر به عائلته على الدوام، حيث يختصر المسألة بقوله: “تاريخ بلدنا مليء بالحروب والفتوحات، إذ حارب الإغريق والرومان والعرب والمغول” وبعد الثورة الإسلامية عام 1979: “واجهنا أسوأ الفاتحين قاطبة، لأنهم كانوا أعداء من الداخل، حيث كانوا على الرغم من ذلك، يتعاملون مع المواطنين الإيرانيين، كما لو أنهم تابعون انتصروا عليهم”.
نبذة عن المؤلفة
هذا الكتاب الشيق الذي خطته المؤلفة بلغة سلسة متنازلة عن تكوينها الأكاديمي العالي، في مقابل تقديم كتاب مشوق يجمع بين التأريخ والسيرة الذاتية والأدب، ليس كتابها الوحيد المنقول إلى العربية، بل لديها كتاب “أن تقرأ لوليتا في طهران”. ومن مؤلفاتها الأخرى: ضد الأرض. وكتاب: بيبي والصوت الأخضر.
وآذر نفيسي أستاذة جامعية إيرانية حازت لقب بروفسير، مديرة مشروع الحوار في معهد السياسات الخارجية التابع لجامعة جون هوبكنز. وتكتب في صحيفة نيويورك تايمز، وصحيفة واشنطن بوست، وصحيفة وول ستريت جورنال. وسبق لها أن درّست الأدب الغربي في جامعة طهران والجامعة الإسلامية الحرة، قبل أن تفصل من التعليم وتغادر إلى الولايات المتحدة في عام 1997.